فقه الخطاب الإسلامي
1- ماذا نعني بالخطاب؟
الخطاب هو مادة الكلام المقال أو المكتوب بين المتكلم وبين السامع وبين الخطيب والمخاطب، وبين الكاتب والقارئ، والخطاب لغة هو الكلام المنثور المسجوع. ورجل حسن الخطبة أي حسن الكلام، وفي القرآن الكريم مواقع كثيرة عرضت للخطاب من جوانب مختلفة، ففي سورة الفرقان الآية 63 قال تعالى: }وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً{ أي إذا خاطبهم السفهاء بالقول السيء، وفي سورة هود الآية 37 قال تعالى: }ولا تخاطبني في الذين ظلموا{ أي لا تشفع للذين كفروا، وفي سورة ص الآية 20 قال تعالى: }وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب{ أي آتيناه البيان والمحكم الذي يميز بين الحق والباطل، وفي سورة ص الآية 23 قال تعالى: }فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب{ أي غلبني في المكالمة والمناقشة والحوار.
وفي سورة النبأ الآية 37 قال تعالى: }رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً{ أي لا يملكون كلاماً.
من هنا كان الخطاب الإسلامي الوسيلة الإعلامية الأفعل في بناء الأمة أو هدمها.
2- التطور سنة من سنن الله في هذه الحياة
ضده: السكون والموت والعدم.
التطور في خلق الانسان قال تعالى: }وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) { (المؤمنون) وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) { (الحج) وهكذا تنطلق وتتحقق سنة التطور في كل شيء: في النبات، والحيوان، والحشرات. وهكذا كانت سنة التطور في الرسالات والأديان، حيث بدأت جزئية محلية، ثم اتسعت وارتقت، ثم تكاملت وكملت، وكان ختامها قول الله تعالى: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً{ (آل عمران). وكما أن التطور سنة من سنن الله، فكذلك التطور فيما خلق الله، وبخاصة لدى الانسان.
3- التطور الإنساني: جزء من سنة التطور الكوني:
· نلاحظ أن كل شيء في هذه الحياة يتطور، فالعلم يتطور، والاختراع يتطور، والفن يتطور، والوسائل التي يستخدمها الإنسان كالسيارة، والطائرة، والأثاث، والسلاح، والصناعات المختلفة، والعمارة، والزراعة، ووسائل النقل والانتقال، ووسائل الاتصال، ووسائل الإعلام والتعليم، إلى ما لا نهاية له من ضرورات أو كماليات الحياة، كلها تتطور.
· ومبعث التطوير لدى الإنسان، أن الله تعالى خلق له عقلاً وقلباً وفطرة تميل كلها إلى تحسين الحياة وتطويرها، وتحسين الأداء وتطويره، وتحسين الإنتاج وتطويره وهكذا، وهذا كله مبعثه الطموح والأمل اللذان استودعهما الله في الإنسان لعمارة الأرض، واستمرار الحياة، وانتقالها من طور إلى طور، وصولاً إلى النهاية المحتومة.
· والناس حيال التطور والتطوير يتنافسون – بل هم في تنافس فطري غريزي – إذ الجميع مجبول على أن يثبت جدارته وأهليته وقدرته في الإبداع، وصدق الله تعالى حيث يقول: }وتلك الأيام نداولها بين الناس{.
· إن مشاريع التطور عند الآخرين تسبق سنوات التطور ومراحله، أي أنهم يطورون ويخططون للتطور المستقبلي وقبل الوقت، وهذا ما يجعلهم أقدر على صنع القرار "أنموذج من مفاهيم التطور عند الغربيين: أن روبرت كرين – فاروق عبد الواحد" مدير الأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون كان أول كتاب كتبه بعد اعتناقه الإسلام: "القيادة الإسلامية في القرن الواحد والعشرين".
4- التطور الإيماني والدعوي والحركي لدى المسلم:
وقياساً على أن التطور سنة من سنن الله في كل شيء، إن الإيمان بكل مشتقاته، والدعوة في مجالاتها، والحركة في عموم توجهاتها ومهماتها ووسائلها وأساليبها، يجب أن تخضع لسنة التطور، وإلا كانت متخلفة عن العصر، متراجعة إلى الوراء.
· فالإيمان الذي لا يتجدد، يفتر ويضعف ويتلاشى.
· والعبادة التي لا تتحسن، تسوء وتفقد معانيها وأبعادها، وإن بقيت تؤدي عضلياً وشكلياً.
· والدعوة إلى الإسلام، إن لم تتطور في مادتها وأدائها وأسلوبها تصبح متخلفة عن العصر، عديمة الفائدة والأثر.
· والحركة – وأعني بها حركة التغيير الإسلامي – إن لم تخضع لسنة التطور ستتراجع وتضمحل وتنعدم، حيث يحل محلها المواكب لسنة التطور، ولو كان دونها إيماناً وتقوى، وهذا مناط قوله تعالى: }وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم{.
· إن هنالك قضايا لا بد من تطور الفهم لها وتكوين فقه جديد لها، سنعرض لها لاحقاً بعون الله.
5- حتمية تطور الخطاب الإسلامي:
· وانسجاماً مع سنة الله في التطور، كان لا بد من تطور الخطاب عموماً، والذي يهمنا هنا هو تطور الخطاب الإسلامي.
· وتطور الخطاب الإسلامي، يعني تطوره في كافة المجلات: التربوية التعليمية، الروحية العلمية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية.
· والخطاب الإسلامي لا بد وأن يتطور ككل حتى يلامس الحياة والإنسان ككل، فلا يجوز أن يكون متطوراً من الجانب السياسي ومتخلفاً من الجانب التربوي، أو العكس، أو أن يكون متطوراً من الجانب الاقتصادي ومتخلفاً من الجانب الروحي.
· من هنا كان تطور الخطاب الاسلامي نتيجة تطور الخطيب أو الكاتب كفرد، وتطور الحركة في مختلف قطاعاتها وأنشطتها وأدوارها كمجموعة.
· إن تطور الخطاب جتمية شرعية وضرورة دعوية، اختزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم" و "خاطبوا الناس على قدر عقولهم".
6- مادة تطور الخطاب وآليته:
لقد حسم القرآن الكريم إشكالية التطور مادة وآلية، حين قرر أن القراءة هي آلية تطور الفهم والفقه والمعرفة والخطاب، ولم يكن عبثاً أن تكون "إقرأ" أول كلمة يهبط بها الوحي الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم.
· والقراءة هي المدخل إلى معرفة كل شيء وتحليل كل شيء، وتقويم كل شيء، ومعالجة كل شيء، إنها المدخل إلى تطوير مناهج التربية والتعليم، إلى تطور مناهج التزكية، إلى تطوير الأداء الإداري، والتنظيمي، والتخطيطي، إلى تطوير الأداء الدعوي والحركي، إلى تطوير الأداء النيابي والسياسي – ومن السهل الممتنع النبوي قوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويعلمه رشده".
· والخطاب الإسلامي يكشف مدى علاقة الفرد والجماعة بالقراءة.
· والقراءة المقصودة لا تقتصر على قراءة الكتب والصحف والمجلات الإسلامية فحسب، وإنما تنتقل منها ومن خلالها إلى قراءة ما يجري في الحياة من شؤون وشجون وأحداث ومتغيرات، لتحليلها، والتعرف على خلفياتها، وأهدافها، وعلاقتها من قريب أو بعيد بالإسلام.
7- القراءة المطلوبة واللازمة لتطور الخطاب الإسلامي:
لا بد من معرفة وإدراك القراءات المطلوبة التزامها في عملية تطوير الخطاب السياسي وذلك وفق الأولوية والأهمية.
أ- قراءة العلم الشرعي من قرآن وتفسير وحديث وفقه: لتتكون من خلال ذلك صورة واضحة عن الإسلام عقيدة وشريعة، وهي القاعدة الثابتة التي يبنى عليها الخطاب الإسلامي في جميع مجالاته، وهذا مناط قوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ويعلمه رشده"، وبهذا يتعلق المقصد النبوي حين جاء أعرابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه من غرائب العلم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: "وماذا صنعت في رأس العلم؟" قال الأعرابي: وما رأس العلم يا رسول الله؟ قال: "مخافة الله، ثم قال: اذهب فتعلم رأس العلم، ثم تعال إلي أعلمك من غرائب العلم".
ب- قراءة في المكان الذي يجري فيه الخطاب: فليس كل خطاب يصلح لأي مكان، فلكل مكان خصوصياته ومشكلاته وطبيعته، كما هي طبيعة الناس الذين يعيشون فيه، فالخطاب في القرية غيره في المدينة، والخطاب في بلد عربي غيره في بلد أجنبي، والخطاب في بلد أحادي الطائفة أو المذهب أو الفكر أو السياسة غيره في البلد التعددي، والخطاب بين الأميين غيره بين متوسطي الثقافة وغيره بين المثقفين، كما غيره بين المسلمين وغير المسلمين.
ج- قراءة في الزمان: حيث إن الخطاب في زمان ما لا يصلح لكل زمان، فالزمان يتغير ويتبدل ويتطور وكما قيل: (إن لكل زمان دولة ورجال)، فخطاب القرن الماضي غير خطاب القرن الحاضر – بل خطاب أول القرن غير خطاب ربعه أو نصفه أو آخره، بل قد يختلف الخطاب بين يوم ويوم أحياناً، ويجب أن نلاحظ هنا قاعدة "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان".
د- قراءة الظروف والأحداث والقضايا: حيث إن الخطاب يجب أن يلامس الظروف التي يعيشها الناس، الأحداث التي تجري حولهم، القضايا التي تهمهم، المشكلات التي يعانون منها، الأمراض التي تفتك بهم، والمؤامرات التي تحاك لهم وعليهم...
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الخطاب مهما كان متطوراً يلامس قضايا الناس المتغيرة والمتبدلة، فإنه يجب أن لا يغفل الجوانب الثابتة في الإسلام وفي المشروع الإسلامي، لأنها بمثابة الأصل الذي ترتبط به كل المفردات والتفصيلات وتبنى عليه، وبذلك يكون الخطاب الإسلامي الناجح هو الخطاب الذي يوجه فروع القضايا والشؤون – وفي أي زمان زمكان – إلى الأصل ويحتكم إليه.
8- الخطاب وفقه اهتبال الفرصة السانحة وتوظيفها في خدمة الإسلام دعوة وحركة:
قد يغيب عن كثيرين ممن يعملون في الحقل الإسلامي الارتباط بين الخطاب الإسلامي والعمل الإسلامي، وبين اهتبال الفرص والسوانح وتوظيفها في خدمة الدعوة والمشروع الإسلامي.
من هنا أرى أنه لا بد من وضع فقه مؤصّل، يتعلق بوجوب توظيف الفرص لخدمة الإسلام، وليس بجوازها، لما لذلك من درء للمفاسد وجلب للمنافع.
وأعداء الإسلام يخلقون الفرص والمناسبات ويصطنعونها اصطناعاً لتوظيفها في خدمة مشروعهم.. والإسلاميون لديهم من الفرص والمناسبات والسوانح الكثير الكثير والتي تمر مرور الكرام أدنى استثمار أو توظيف، ولعل البعض يظن أن في ذلك عيباً، وأن مجرد التفكير فيه معصية والبعد عنه واجب.
وهنا لا بد وأن نعرض لبعض من الفقه الذي كان عليه الأولون في اهتبال الفرص وتوظيفها في الخير وفي خدمة الإسلام.
هنالك قصة الغلام المؤمن، الذي تحير الملك في كيفية قتله والتخلص منه، وجرب شتى الوسائل وفشل، فما كان من الغلام وقد لاحت له الفرصة السانحة التي من خلالها يحقق إيمان الشعب كله بالله، فتقدم من الملك قائلاً: أولا أدلك على طريقة بها تتخلص مني؟ قال: هات ما عندك. قال الغلام: تجمع الشعب كله في الساحة العامة، ثم تربطني إلى عمود، وتأخذ سهماً وتقول: باسم رب هذا الغلام وينتهي الأمر.. ففعل الملك ما اقترحه الغلام، وأطلق السهم وهو يوقل: باسم رب هذا الغلام. فقتل الغلام على التو، وآمن الشعب كله على التو، وقالوا: آمنا برب هذا الغلام.
ويوم الأحزاب أسلم اليهودي (نعيم بن مسعود الأشجعي) فطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوظفه في مصلحة الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة"، ولقد قام بدور ذكرته كتب السيرة بالتفصيل، كان من نتائجه وقوع انشقاق في موقف الأحزاب، مما أدى إلى انسحابهم منهزمين – ونزل قول الله تعالى: }وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) { (الأحزاب).
ويوم فتح مكة وظف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصة إسلام أبي سفيان، وانتدبه لينادي فو قومه (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن"، وهكذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً بدون قتال يذكر. |