فقه الأولويات
أولاً: ماذا نعني بفقه الأولويات
إن فقه الأولويات مركب إضافي من كلمتين:
أما الفقه، فهو الفهم مطلقاً. ولا يُقصد بكلمة الفقه هنا المعنى الاصطلاحي الذي هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، وإنما مقصود به مطلق الفهم الذي جعله الله شرط بلوغ الخير وتحقق الهدي: "من يُرد الله به خيراً يفقه في الدين".
وأما الأولويات، فهي جمع أولى. وأولى في اللغة، أحرى وأجدر كما جاء في القاموس ومختار الصحاح.. فيتحصل عندنا أن هذا المركّب الإضافي (فقه الأولويات) يعني: "معرفة ما هو أجدر من غيره في التطبيق"، بمعنى أن يقدم على غيره، وهذا أيضاً تابع لمعرفة طبيعة الوقت الذي يطبّق فيه الأمر..
من هنا – ولذلك – وجدنا عند علماء الفقه وأصوله عبارة "هذا خلاف الأولى"، بمعنى هذا خلاف الحكم الأجدر بالتطبيق.
ثانياً: نتيجة تعطل فقه الأوليات o في زمن يتكالب فيه العالم على قتال المسلمين، الأولى بهم أن يقدموا وحدة المواجهة على الردود الاجتهادية في المسائل الظنية. وأن يقدم الحرص على ظهور الإسلام على الحرص على ظهور التنظيم.
الوقت ليس وقت إظهار أي رأي أفضل وأي اجتهاد أصوب. بل الوقت وقت رصّ للصفوف وجمع للكلمة في مواجهة هجمة عاتية تستهدف كل من يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. وإليه يشير قوله تعالى: ]وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) [ (التوبة)، قال ابن كثير: أي كما يجتمعون لقتالكم فاجتمعوا أنت أيضاً لقتالهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون.
o إن عدم الأخذ بهذه الأولوية إلى ماذا يؤدي؟
يؤدي إلى ظهور أعداء الإسلام على المسلمين، واستباحة أموالهم وأعراضهم، وهو ما نراه اليوم في عصرنا تماماً، فماذا نكون قد صنعنا؟ هل خدمنا الإسلام..؟ لا بل خذلنا الإسلام والمسلمين ونحن نحسب إننا نحسن صنعاً.
o إن الولاء (بمعنى النصرة والتأييد) هو من صلب عقيدة الإسلام، وهذا ما أوجبه الله تعالى على عباده فقال: ]وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ..[، أي أن كل المؤمنين والمؤمنات أولياء لبعضهم البعض، فيحصل أن المنتمين إلى تنظيمات إسلامية تختلف في طروحاتها يقصرون الولاء على تنظيماتهم ويعتبرون من كان خارج دائرتهم التنظيمية ليس من أهل الولاء، وبالتالي يؤدي هذا إلى تفكك الروابط بين المسلمين وإلى الفشل: ] ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم [.
ومما له تعلق بالعقيدة أيضاً، معرفة الأصول من الفروع، حتى لا يكون الخلاف على فرع سبباً لشق الصف والتكفير والتضليل..
فالعقيدة فيها أصول وفيها فروع. بل إن العلماء اعتبروا أن أصول العقيدة:
1- الإيمان بالله تعالى إجمالاً.
2- الإيمان برسول الله e إجمالاً.
بمعنى، هو النطق بالشهادتين، فهذه أصول وما عدا ذلك فروع، الخلاف فيها لا يفسد للود قضية (على ما ذكر الإمام الغزالي في كتابه "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة").
ثالثاً: الأولويات تغطي كل جانب 1- الأولويات في العلوم: (طب أنواع العلوم فرض على الكفاية).
معرفة احتياجات الأمة في كل عصر، ثم توزيع الخبرات على الاختصاصات المطلوبة لتتكامل فيما بينها.. ففي هذا العصر مثلاً، مطلوب معرفة احتياجات الأمة، فنحن نحتاج إلى أخصائيين في الاقتصاد، إلى اختصائيين في مجالات معينة من الطب، كالطب النسائي مثلاً، حيث يجب أن تتعلم بعض نسائنا هذا الاختصاص. مطلوب أخصائيين في التكنولوجيا الحديثة، وما يتفرع عنها من الصناعات الثقيلة، مدينة وعسكرية، إضافة إلى بقية العلوم الأخرى، وطبعاً الشرعية..
ولكن، كل عصر قد يحتاج إلى نوع من العلوم أكثر منه في عصر آخر..
- فمثلاً، في فترة من الفترات كانت حاجة الأمة إلى علم الفلسفة والمنطق، للردّ على الفلاسفة وأرباب المنطق اليوناني.. - وفي فترة أخرى، كانت الحاجة إلى معرفة ضوابط علم الخلاف.. 2- الأولويات (في الحسبة): ما ذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية مر يوماً مع بعض تلاميذه على قوم من التتار أطفأت الخمرة عقولهم، مع ادعائهم انتحال الإسلام، فأراد مرافقوه أن ينكروا عليهم عملاً بنظام الحسبة، فقال لهم دعوهم.. الله تعالـى يقـــول: ] إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) [ (المائدة)، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل المسلمين، فدعوهم في سكرهم.. - ومن قواعد الحسبة "ينكر المتفق عليه، ولا ينكر المختلف فيه". كما لا ينكر إذا أدى إلى ضرر أكبر. - ومن أمثلة ذلك:
أ - في التشريع: طلب نبي الله يوسف عليه السلام الولاية على خزائن الأرض حتى لا يكون ظلم وفساد. - إفتاء ابن تيمية بجواز تواي القاضي المسلم القضاء للكافر الذي غلب على ديار المسلمين، إذا كان يعلم أنه بتوليته هذه يخذّل عن المؤمنين، مع ما ورد في عموم الفصول من عدم تولي الكفار..
ب- في الدعوة: - ترك النبي e الأصنام حول الكعبة في مرحلة الاستضعاف، بل والطواف حول الكعبة مع وجود هذه الأصنام، مع القدرة على تكسيرها سراً. - منعه e الصحابة في مكة من مقاتلة المشركين مع قدرتهم على ذلك (عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب وغيرهما من سادة قريش).. "فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه". - إقرار النجاشي على البقاء في الحكم وعدم الهجرة إليه مع وجوبها.
جـ - في الحدود: تعطيل عمر لحد السرقة عام الرمادة.
د – في التربية:
دعا سيدنا إبراهيم عليه السلام فقال: ] رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129) [ (البقرة).
.. فاستجاب الله تعالى دعاءه، ولكنه أعاد ترتيب مفردات الدعاء للتوافق مع المطلوب: ]كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) [ (البقرة).
]هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) [ (الجمعة).
فهكذا يجب أن تكون الترتيبات:
- تلاوة الآيات. - التزكية. - التعليم.
والخلل في أدائها حسب الترتيب يؤدي إلى خلل في منهج التربية.
رابعاً: أولوية "المشروع" على التنظيم في منهج البنّا:
.. والمشروع الإسلامي الذي يستوعب (الأمة)، كان مقدماً لدى الإمام الشهيد حسن البنا على (التنظيم) الذي لا يستوعب إلا الشريحة الحركية.
كان البنا يؤسس لمشروع نهضة الأمة، وكان يعتبر (النظام) أداة لتحقيق هذه النهضة، وليس هدفاً قائماً بذاته.. وكان البنا يدهش الكثيرين ممن يعجبون به ويأتون مبايعين من زعماء التنظيمات الحزبية المختلفة، وراغبين في الانتظام بالحركة، فكان يدعوهم للبقاء في مواقعهم مبيناً لهم المصلحة الإسلامية الكبرى التي تحقق من خلال بقائهم في هذه المواقع والعمل للإسلام من خلال المشروع الإسلامي الذي يستوعبهم جميعاً.
خامساً: أولويات الأدبيات الشرعية على الأدبيات التنظيمية:
... ومما يجدر الوقوف عنده، وإعادة النظر فيه، أن (الأدبيات الشرعية) يجب أن تتقدم على (الأدبيات التنظيمية). وهذه المعادلة إن اهتزت اهتزّ كل شيء وأصبح الولاء للأشخاص لا الله، والأولوية للتنظيم لا للشرع. وهي ظاهرة خطيرة أخذت تتفاقم كثيراً في إطار العمل الإسلامي. فمن الأمثلة أن (التنظيم) قد يتهاون مع أفراده في مخالفات شرعية (كالغيبة والنميمة والكذب.. والإثراء غير المشروع والرياء والمداهنة!!)، في حين لا يتهاون في أمر تنظيمي قد يكون مخالفاً لحكم شرعي.
إن الأدبيات التنظيمية يجب أن تكون في خدمة الأدبيات الشرعية وليس العكس. |