الصراع على النفوذ بالشرق الأوسط والرغبة في التمدد الإقليمي يبدو قدَراً مستمراً للعلاقات الإيرانية - التركية، على الرغم من بعض الفترات التاريخية التي شهدت العلاقات فيها تقارباً بين البلدين، ولكن دون أن يرقى هذا التقارب أبداً إلى مستوى التحالف الثنائي بين البلدين الجارين.
فاضت المعاني الكامنة في زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى إيران الأسبوع الماضي على الحدود السياسية للبلدين الكبيرين حتى وصلت إلى قلب التوازن الإقليمي في المنطقة، ومرد ذلك أن كلاً من إيران وتركيا تملك، بالإضافة إلى علاقات الجوار التاريخي، من المؤهلات والطموح والحضور في المنطقة ما يثبته قوة إقليمية معترفاً بها.
استبق رئيس الوزراء التركي زيارته إلى طهران بتأييد «الملف النووي الإيراني السلمي»، بالتوازي مع رفض تركي لمشاركة الطيران الإسرائيلي في مناورات «نسر الأناضول» احتجاجاً على اضطهاد جيش الاحتلال الصهيوني للفلسطينيين.
استعجل بعض المحللين تفسير الخطوات التركية، واعتبروها علامة على «تحالف جديد بين أنقرة وطهران» في مواجهة إسرائيل والغرب، وهو تحليل مبسط لا يلحظ المعاني العميقة للتنافس التاريخي القائم بين تركيا وإيران على لعب دور القوة الإقليمية الأعظم في المنطقة، ولا حتى التصادم الواضح في المنظومة القيمية للنظامين السياسيين التركي والإيراني.
أما البعض الآخر من المحللين فقد اعتبر أن «هوية تركيا السنيّة» تمنعها بالضرورة من التعاون مع «إيران الشيعية»، وبالتالي فالزيارة تحمل طابعاً تجارياً ولا تتعداه، وهو أمر يجافي الصواب والمنطق لأنه يفترض احتكار البعد الطائفي لعملية رسم السياسة الإقليمية للدول، حتى مع التسليم بأهميته التاريخية والثقافية في العلاقات الإيرانية - التركية.
يحاول هذا المقال أن يقلب النظر في الأبعاد التاريخية والإقليمية لزيارة أردوغان عبر استعراض المحطات التاريخية في العلاقات بين إيران وتركيا، ومحددات التنافس والتعاون بينهما، ويخلص إلى نتيجة وجود بعد صراعي وآخر تعاوني في علاقات البلدين الجارين، مع غلبة واضحة للبعد الصراعي في هذه العلاقات.
مزيج من التنافس والصراع
تكتسب العلاقات بين إيران وتركيا أهمية مضاعفة بسبب أن إيران وتركيا ليستا دولتين عاديتين في الجوار الجغرافي للدول العربية، بل قوتين إقليميتين في الشرق الأوسط، يتجاوز حضورهما الإقليمي الحدود السياسية لكليهما. تأسيساً على ذلك تتجاوز العلاقات الإيرانية - التركية في أبعادها السياسية والاستراتيجية معاني أية علاقات ثنائية بين بلدين غير عربيين، إذ إن طبيعتها الخاصة تجعلها تؤثر على واقع منطقة الشرق الأوسط.
تتقاطع المصالح الإيرانية - التركية في مسائل متنوعة، منها تصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، وهي قضية ذات معان استراتيجية عميقة تتجاوز مجرد تصدير سلعة من بلد إلى آخر، لأن «خط نابوكو» الذي ينقل النفط والغاز عبر بحر قزوين عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، سيعزز وضعية تركيا أكثر فأكثر على خرائط السياسة الدولية.
ويشترك البلدان في العمل على تحجيم الطموحات الكردية التي فارت مع احتلال العراق عام 2003، ويتفقان أيضاً على لجم العربدة الإسرائيلية في المنطقة على خلفية المصالح الوطنية لطهران وأنقرة قبل أية اعتبارات أخرى.
وتحتم المصالح الوطنية لكل من إيران وتركيا الساعيتين إلى لعب دور إقليمي اصطداماً معلوماً مع تل أبيب التواقة إلى الهيمنة الإقليمية، ولكن درجة هذا الاصطدام تتحدد وفق موازين حساسة.
تقول وقائع التاريخ إن الحدود الإيرانية - التركية ما زالت قائمة بدون تعديل أو مشاكل حدودية منذ «معاهدة زهاب» التي وقعتها إيران والسلطنة العثمانية عام 1639، أي قبل حوالى أربعة قرون، وهو ما يعنى وجود حد أدنى من علاقات حسن الجوار بين أنقرة وطهران يعلوها سقف معقول من المصالح المتبادلة في المنطقة، سواء بخصوص العراق أو سورية أو درجة الاصطدام بتل أبيب.
وتشترك كل من طهران وأنقرة في حقيقة أنهما تمتلكان موقعاً جيو-استراتيجياً مهماً في المنطقة، ولكنهما أيضاً تعانيان معاً من عدم وجود إطار مؤسسي يجمعهما مع الدول العربية في منظومة إقليمية وأمنية مشتركة، وإن كانت تركيا تستعيض عن ذلك بالانخراط في حلف الناتو والتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن. أما إيران فلم تتمكن من الانخراط في أية منظومة إقليمية أو دولية، وعلاقاتها الدولية مع روسيا والصين لا ترقى إلى مستوى علاقات تركيا بالغرب، فضلاً عن وضوح التفوق الأمريكي حتى الآن على نظيريه الروسي والصيني في حلبة السياسة الدولية.
تقارب لا تحالف
تتنافس تركيا موضوعياً مع المشروع الإيراني في المنطقة بالرغم من كل عناصر ومحفزات التعاون، ويبدو واضحاً أن هناك فروقاً ظاهرة في النموذج والأدوات بين المشروعين، حيث ترفع إيران راية «الممانعة» ضد الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الصهيوني، وتتحالف مع أحزاب وحركات سياسية تناوئ واشنطن والنظم السياسية القائمة، فيما ترفع تركيا لواء «التحديث والانفتاح» على خلفية نجاحات اقتصادية وديمقراطية، بالتحالف مع واشنطن والانفتاح على دول المنطقة بمعناها القانوني والمؤسساتي. وإذ راجت أنباء عن قيام تركيا بوساطة بين واشنطن وطهران، فقد عاد الطرفان لينفيا ذلك لاحقاً، بعدما رفضت إيران عرضاً تركياً باستضافة المحادثات بين الغرب وإيران حول الملف النووي، حيث فضلت طهران الذهاب إلى جنيف وفيينا على أن تحط رحالها في تركيا.
ويعود السبب في الرفض الإيراني إلى عاملين أساسيين: أولاً وعي إيران بحدة التنافس مع تركيا، وأنها لا تريد إعطاء الأخيرة نقاطاً دبلوماسية، وثانياً لأن الذهاب إلى جنيف، التي استضافت سابقاً مفاوضات دولية فائقة الأهمية مثل المفاوضات السوفياتية - الأمريكية، يحسّن صورة إيران في العالم ويضعها في صورة القوة الإقليمية العظمى. أما الموافقة على الاستضافة التركية والوساطة التركية فستعني - في المنظور الإيراني - تثبيتاً لدور تركيا الجديد باعتبارها «المرجعية الإقليمية» في الشرق الأوسط، وهو ما لا تريده طهران.
عرفت العلاقات الثنائية بين تركيا وإيران فترة من التفاهم الاقتصادي في عصر الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، ثم أعقبتها فترة من الازدهار النسبي خلال عام 1995 - 1996 الذي ترأس فيه نجم الدين أربكان و«حزب الرفاه» الحكومة التركية.
وفى ذلك العام وقع البلدان اتفاقية لتصدير الغاز الإيراني إلى تركيا بقيمة 23 مليار دولار، وهي الصفقة الأضخم في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين الجارين، يمتد بمقتضاها خط أنابيب نقل الغاز من مدينة تبريز الإيرانية حتى مدينة أرضروم لمدّ تركيا بالغاز لمدة ثلاثين سنة.
احتلال العراق وتبدل إقليمي
أدى احتلال العراق عام 2003 إلى نتيجة واضحة في التنافس الإيراني التركي مفادها أن الطرفين الأمريكي والإيراني صارا الأقوى على الساحة العراقية، فالأول يحتل العراق عسكرياً والثاني يحكم ويتحكم من طريق الحلفاء بمقدرات السلطة في بغداد. كلاهما لا يستطيع إزاحة الآخر، طهران لا تملك الأدوات العسكرية لذلك، أما واشنطن، وإن سيطرت عسكرياً، فإنها تعاني مأزقاً مستحكماًً إذ لا يمكنها إزاحة حلفاء إيران من المشهد السياسي. ولم يكتف حلفاء إيران بتصدر واجهة المشهد السياسي في ظل الاحتلال، بل تحولت ميليشياتهم العسكرية إلى نواة للتشكيلات النظامية العراقية في وزارتي الداخلية والدفاع.
غابت القوى الإقليمية عن المشهد، فالدول العربية الرئيسية ودول جوار العراق لم تنجح في الوصول الى تصور مشترك حول العراق بسبب الضغوط الأمريكية المتوالية عليها، وبالتوازي مع ذلك لعب الأكراد دور العازل الجغرافي لتمدد تركيا الإقليمي في العراق، بانتشارهم على كامل الحدود العراقية - التركية المشتركة بغطاء أمريكي سياسي وعسكري.
مددت تركيا في السنة الأخيرة علاقاتها إلى الأحزاب الشيعية العراقية، ليس بهدف سحبها من إيران، ولكن مقاسمة تركيا للأخيرة في نفوذها عليهم. وإذا أضفنا إلى هذه الصورة التحالف الكبير الذي ينمو بمرور الوقت بين أنقرة ودمشق، أدركنا أن المنافس الإقليمي الأساسي لطهران على النفوذ في المنطقة هو تركيا.
وبالرغم من التنافس الضاري على التحالفات والأدوار الإقليمية، لم يمنع ذلك رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من زيارة طهران ولقاء رئيس الجمهورية والمرشد الأعلى، لأن قواعد اللعب الجديدة في المنطقة لم تعد المواجهات العسكرية، مثلما كانت الحال عليه بين الصفويين والعثمانيين، بل سحب الحلفاء والتأثير على خيارات الخصوم وبناء شبكات مصالح مع الأطراف المختلفة عبر قراءة دقيقة وموضوعية للتناقضات في مصالح اللاعبين المحليين والإقليميين.
تأسيساً على كل ذلك، لا يمكن اعتبار زيارة أردوغان إلى طهران «إعلاناً لتحالف جديد» كما ذهب البعض، بل هي تدشين لعودة تركيا إلى حلبة الشرق الأوسط وإلى ساحة التنافس مع إيران.. بأدوات جديدة وفى ظروف إقليمية متغيرة. |