خطة لإقحام حكام بلغراد الجدد في نزاع آخر يضع تفجر الوضع الامني في كوسوفو وجنوب صربيا الغرب امام تحديات فعلية وينسف محاولات وجوده لاعادة دمج يوغوسلافيا وضمها إلى البيت الاوروبي بعد عشر سنوات من حكم ميلوسيفيتش الذي اقحمها في حروب عديدة اعادت المنطقة ودولها إلى الخلف لعشرات السنين. وتشن المجموعات الالبانية المسلحة التابعة لمنظمة جيش تحرير بريشوفو وميدفيتشا وبويانوفاتس AOPMB عمليات مسلحة منظمة ضد القوات الصربية المنتشرة في ما وراء الحزام الامني العازل الممتد على الشريط الحدودي بين كوسوفو وجنوب صربيا.
ويتخوف القادة الالبان من ان مرحلة السكون في الاقليم لن تستمر طويلا لان التأييد الغربي لقضيتهم قد يكون قضى نحبه مع التغييرات السياسية في بلغراد التي دفعت كوسوفو إلى المرتبة الخلفية في الاولويات الاوروبية.
من هنا ليس من الغرابة اذن في سياق الاحداث المتلاحقة في الاقليم منذ الانتخابات المحلية التي حقق فيها حزب الزعيم المعتدل ابراهيم روغوفا (الرابطة الديمقراطية لكوسوفو) الانتصار الحاسم، ان تظل عملية تفجير مكتب الممثلية اليوغوسلافية في بريشتينا ومن ثم بعدها سلسلة الهجمات المسلحة في وادي بريشوفو، لغزا لن تستطيع لا (كيفور)، ولا (يوغيك)، فك رموزه المعقدة.
ولعل هذا الذي دفع رئيس الادارة المدنية الدولية برنار كوشنير إلى القول (ان الايام السوداء للعنف الكوسوفي بدأت تعود من جديد)، اذ قام مجهول باطلاق النار على المستشار السياسي للزعيم روغوفا، والذي يعتبر احد ابرز مقربيه، مصطفى جميل وقتله على الفور، تبعتها محاولة ثانية ادت إلى اصابة احد قادة الرابطة في مدينة بوديفو بجروح خطيرة.
ويرى المراقبون في الوضع المتفاقم على الجبهتين الداخلية والخارجية صورة للمنحى المزدوج الذي يمضي فيه المتطرفون المتحلقون حول الزعيم السياسي السابق لجيش التحرير المنحل هاشم تاجي والهادف إلى تحقيق هدفين متوازيين، الاول: شن حملة من الاغتيالات والتصفيات السياسية كمعادل «موضوعي» للهزيمة الانتخابية مقابل روغوفا ومن ثم المضي قدما في تصفية كوادره الواحد تلو الاخر وبصورة منهجية منظمة بغية عرقلة الهيئات المنتخبة في ممارسة اعمالها ووظائفها بشكل طبيعي، وبث الشلل في المؤسسات المحلية وبالتالي احداث بلبلة شاملة في الوضع الداخلي العام على خلفية تصعيد التوتر مع بلغراد والادارة المدنية والقوات الدولية على السواء.. ووفقا للمصادر المطلعة فان (التشكيلات السرية «الامنية» لجيش التحرير المنحل ستقوم بمحاولات منظمة لاغتيال المعارضين والمناوئين السياسيين داخل الاقليم).
ولا توجد اي شكوك لدى المراقبين في أن اختيار هذا الوقت لتنفيذ الهجمات المسلحة وعمليات الاغتيال والتفجيرات ليس مصادفة او حدثا معزولا، اذ انها جرت قبل ايام معدودة من اجتماع لقادة الاتحاد الاوروبي وزعماء الدول الواقعة في غرب البلقان، عقدوه في العاصمة الكرواتية زغرب للبحث في المستجدات والتطورات بعد انهيار ميلوسيفيتش وسبل اعادة تنمية يوغوسلافيا والمنطقة ككل، إلا ان اللافت للنظر هو ان جدول اعمال القمة وحتى مسودة بيانها الختامي لم يتضمنا ولا كلمة واحدة ترتبط بموضوع كوسوفو، في تجاهل واضح اعتبره المحللون متعمدا ويرمي إلى عدم اغضاب الحكام الجدد في بلغراد.
ومن المؤكد ضمن هذا السياق ان الراديكاليين المتحلقين حول هاشم تاجي هم اولئك الذين لديهم المصلحة المباشرة في اثارة التوتر بغية لفت انظار الاوروبيين وافهامهم بأنهم لن يقبلوا بوضع قضيتهم في (الثلاجة) لاجل غير محدود.
ان احد الاهداف الرئيسية لهذا التحرك هو اقحام الحكام الجدد في بلغراد في نزاع جديد لتلويث سمعتهم ودفع الغرب إلى التريث في غزله السياسي مع الديمقراطيين الحاكمين في يوغسلافيا.
وفي الوقت الذي تظهر فيه تحليلات تنفي ربط الاغتيالات والعمليات المسلحة باستراتيجية جديدة يترسم خطاها القادة المتطرفون في كوسوفو، تذهب اخرى إلى اعتبارها (عمليات مدروسة ومنظمة وتأتي في اطار خطة محكمة ستأخذ مدى اوسع خلال الاشهر القليلة المقبلة.
ولعل ما ذكره الجنرال كابيجوز قائد قوات (كيفور) يدخل في هذا المنحى، اذ قال (ان ما حدث ويحدث في جنوب صربيا ليست حالات فردية معزولة، مما يستلزم دراسة جدية لتوضيح اسباب تدهور الاوضاع واذا ما كانت جزءاً من خطة معدة سلفا لاثارة واستفزاز نزاع مسلح جديد.
وفي الحقيقة توجد معطيات ومؤشرات تدلل على وجود خطة وضعها القادة المتطرفون من بقايا جيش التحرير المنحل، فلقد جاء رد الفعل الصربي على التطورات المتلاحقة سريعا وحاسما، اذ اتهم الرئيس كوشتونيتسا المجتمع الدولي بعجزه عن ضمان الامن في الاقليم والاراضي الصربية في تلميح واضح من طرفه إلى تورط جهات معينة لا يخفى على العارفين بان المقصود هو الولايات المتحدة.
وقال زعيم الحزب الديمقراطي، المرتقب ان يتولى رئاسة الحكومة الصربية بعد الانتخابات العامة زوران جينجتش: «ان العمليات العسكرية على الحدود كانت واسعة بمقاييسها وليس بعيدا تحولها إلى حرب فعلية جديدة».
ووفقا للمعلومات الاستخباراتية التي تسربت من هيئات (كيفور) فان المنظمة الالبانية المسلحة AOPMB تستعد لشن عمليات حربية كاسحة في منطقة الكيلومترات الخمسة العازلة الواقعة خارج السيطرة الفعلية للقوات الاطلسية وتحرسها القوات الصربية التابعة لوزارة الداخلية (ساج). وتؤكد المعلومات نفسها (ان عدد افراد هذه المنظمة يبلغ عدة آلاف وهي تمتلك ليس فقط الاسلحة الاوتوماتيكية الخفيفة، وانما ايضا الاسلحة الثقيلة بما فيها الصواريخ المضادة للدبابات.
ولعل احد ابرز الادلة والبراهين على صحة التحليلات القائلة بان المتطرفين الالبان لن يتوقفوا عند هذا الحد، هو محاولاتهم المستمرة المستميتة لتهريب الاسحلة والذخيرة في كوسوفو إلى جنوب صربيا التي نجحت قوات (كيفور) باحباط اكثر من واحدة منها واشتملت على الصواريخ المضادة للدبابات والالغام والبنادق الاوتوماتيكية والذخيرة وحتى البذات العسكرية التي تحمل شعار المنظمة المتطرفة AOPMB.
في هذا الاطار يروج المعنيون بالشأن البلقاني لسيناريوهات ومخططات جديدة لتفتيت ثالث لما تبقى من الفيدرالية اليوغسلافية بدفع الجبل الاسود إلى الانفصال، حيث ستنهار الفيدرالية ومن ثم بعد ذلك تعويض صربيا كدولة بتشجيع الحركات الانفصالية في اقليم فويفودنا الذي تقطنه اغلبية اثنية هنغارية واقليم صنجاق الذي يشكل فيه المسلمون الاغلبية.
ويورد المحللون منذ اسابيع روايات عن قلق اميركي من ارهاصات تشكل محور يضم اثينا وبلغراد له اوجه سياسية واقتصادية وحتى عسكرية ويشددون على ان المصالح المشتركة لليونان ويوغسلافيا تشهد نموا بوتائر سريعة، وبالتالي فإن تكون المحور الجيوسياسي ـ الاقتصادي يتطابق مع تطلعات الزعامة الجديدة في الكرملين لانه احد الوسائل الممكنة لتحجيم الوجود والتأثير الاميركي في البلقان.
ويشدد المراقبون على ان منطقة جنوب صربيا تمثل نقطة استقطاب استراتيجية للولايات المتحدة وخططها الرامية لفرض السيطرة على البلقان، لانه من هناك يمر الطريق الاستراتيجي العام من اثينا عبر اسكوبيا إلى بلغراد وبالتالي فان تخلخل الامن بوجود كانتون الباني مستقل يعيق نفوذ المحور الجديد وتأثيراته والمخططات الروسية للوجود الفعال في البلقان.
ويذهب المحللون إلى ابعد مما هو متوقع معتبرين تصدير التوتر إلى خارج كوسوفو حالة توفر للولايات المتحدة فرصة مواجهة تعارضات داخلية مرتقبة بعد تولي جورج بوش الابن كرسي الرئاسة، فهو لم يخف عزمه على الانسحاب من البلقان، ولهذا فان احتدام التوتر وتزايد العنف في كوسوفو يشبع رغبات الصقور في البنتاغون والمجمع الصناعي العسكري ويقوض من الاساس تلك الافكار الداعية إلى تخفيض عدد أو سحب القوات الاميركية من كوسوفو.
ومن المحتم ان تترك التطورات المتسارعة في كوسوفو وجنوب صربيا انعكاساتها على مقدونيا لان تخلخل الوضع على الحدود لا بد ان يخلق انفلاتا امنيا في الداخل، ولقد تجسد هذا عمليا في الازمة الحكومية المحتدمة الآن وخروج حزب البديل الديمقراطي من الائتلاف الحاكم، ولا يوجد ادنى شك في انه مع سقوط حكومة جيور حبيفسكي، وهو امر ليس مستبعدا، ستبدأ مرحلة من التقارب بين بلغراد واثينا واسكوبيا وموسكو.
وتأتي تصريحات ادلى بها مسؤول مقدوني رفيع بضرورة ان يكون لروسيا نفوذ قوي وتأثير فعال في البلقان، لتصب في هذا المجرى.
ان محاولة تحجيم خطورة الوضع الامني لن تفيد في تبديد المخاوف المتزايدة من امكانات تفجره لاحقا وتبعا لحركة الوضع السياسي في بلغراد. والقادة الالبان لن يتخلوا عن خوض مغامرة انتحارية تعيد لهم دورهم المفقود حتى ولو أدى ذلك ليس إلى هز يوغوسلافيا، بل البلقان كله من جديد.
* كاتب وصحافي عراقي يقيم في بلغاريا
|