الخلفيات الكلية والحقيقية لظواهر العنف والتطرف
بقلم الداعية فتحي يكن
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين ، ونحن على ذلك ـ ان شاء الله ـ من الشاهدين.
وبعد : فكثيرة هي الأسباب والأغراض التي تقف وراء ظواهر العنف والتطرف التي تمارس على الساحة الاسلامية ، والتي باتت تعرف بظاهرة الارهاب ، والتي غدت ذريعة بيد أعداء الاسلام لتمرير مشاريعهم ، وتحقيق أغراضهم، فضلا عن أثرها الكبيرفي تشويه صورة الاسلام ، وتعطيل الدعوة اليه ، واجهاض الصحوة الاسلامية المعاصرة ، بعد أن شع نورها وعظم أثرها في العالمين ، ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ولو كره الكافرون )
وكنت أتمنى لو أن الساحة الاسلامية ، ومرجعياتها ومؤسساتها ، ومجامع فقهها ، بادرت الى وضع دراسة علمية ، حول هذه الظاهرة التي اهتمت بها الدول الكبرى وشكلت لها لجانا مختصة بحثا عن خلفياتها ، واستكشافا لأسبابها !!
وهكذا بقيت الظاهرة من غير دراسة تأصيبلية معمقة ، وبالتالي بقيت بدون حل جذري ، وعرضة لردات فعل لاتتعدي الاستهجان والاستنكار ، أو لغة التهديد والوعيد ـ من مواقع الحكم والحكومات ـ لمن يقومون بها أو يقفون وراءها !!
والحقيقة أن ظاهرة العنف والتطرف لايمكن معالجتها من خلال لغة الحديد والنارلوحدها ، لأن آخر الدواء الكي وليس أوله ، والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمورلايفيد شيئا ان ام يزد الأمر تعقيدا والنار اشتعالا ، لأن أصحاب هذا النهج هم في الأساس متطرفون ومغالون ، وبالتالي فان العنف لاينفع معهم ولا يفلح في كبح جماحهم بحال .
(1) الخلفيات الخّـلقية
وأقول ان ظاهرة العنف والغلو والتطرف ليست جديدة في واقع حياة الناس حتى المسلمين منهم وفي العصور الاسلامية الأولى ..
فالناس في أصل تخلقهم وتكوينهم يختلفون ويتباينون .. فهذا حاد المزاج وذاك بارد وهاديء .. وهذا عنيف متطرف وآخر معتدل .. والآخر مسالم وغيره عدواني .. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان هنالك من مبرر للتحذيرات النبوية المتكررة لأصحاب هذا النهج من عواقب هذا الداء .
فمن تحذيراته عليه الصلاة والسلام قوله : ( ألا هلك المتنطعون ) والمتنطعون هم الغلاة .. وقوله :( ان المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى) وعنه صلى الله عليه وسلم ، أنه ما خير بين أمرين الا اختار أوساطهما .
ومما يذكر في هذا المجال أن أصحاب هذا المزاج يعرفون أنفسهم ويشعرون بشدتهم وقسوتهم وغلوهم .. فالفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، الذي طالما بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمواقف حادة اذاء المخالفين والشاذين حيث كان يردد قولته المشهورة ( دعني أقطع عنقه يا رسول الله ) كان من دعائه بعد أن ولي الخلافة قوله:( اللهم اني شديد فألني لأهل طاعتك .. اللهم اني شحيح فسخني ..) وهو الذي أبى أن يهاجر كما هاجر بقية المسلمين متخفيا .. فأتى قريشا في مجلسها وقال( من أراد أن تثكله أمه ، أو ييتم ولده ، أو ترمل امرأته ، فليلقاني وراء هذا التل )
الغضب وآثاره السلبية :
يقول الدكتور أحمد شوقي ابراهيم عضوالجمعية الطبية الملكية واستشاري الامراض الباطنية والقلب .. أن الميول الانسانية تنقسم الى أربعة أقسام , ويختلف سلوك وتصرفات الاشخاص باختلاف هذه الميول ومدى السيطرة عليها :
(1) الميول الشهوانية: وتؤدي الى الثورة والغضب ..
(2) الميول التسلطية : وتؤدي الى الكبر والغطرسة وحب الرياسة .
(3) الميول الشيطانية : وتسبب الكراهية والبغضاء للاخرين .
ومهما كانت ميول الانسان فانه يتعرض للغضب فيتحفز الجسم ويرتفع ضغط الدم ، ويحدث الارتاج والاغلاق على العقل ، فانعدام الوزن ، فالتصرف الطائش غير المسؤول والخطير أحيانا . لهذا ينصح الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بقوله ] لا تغضب [ وليس معنى عدم الغضب هنا وقفه بالكلية ، فهذا غير ممكن ، والمقصود عدم التمادي فيه، فكيف اذا انـتـهكت حرمات الله .. وفي هـذه الحالة وجب عليه مـراعاة الـقـواعـد الشرعــية ، مــثـل: (درءالمفاسد يقدم على جلب المنافع ) و( دع الخير الذي عليه الشر يربو) وعدم جواز ازالة المفسدة الصغرى بأكبر منها !
والقرآن الكريم يصور الغضب قوة شيطانية تقهر الانسان وتدفعه الى أفعال ما كان يأتيها لو لم يكن غاضبا .. فسيدنا موسى عليه السلام ، ألقى الالواح وأخذ برأس أخية يجره إليه .. فلما ذهب عنه الغضب ، وبحسب التعبير القرآني :( ولما سكت عن موسى الغضب اخذ الالواح) .. وكأن الغضب وسواس قرع فكر موسى ليلقي الالواح .. وتجنب الغضب يحتاج الى ضبط النفس مع ايمان قوي بالله .. ويمتدح الرسول صلى الله عليه سلم الذين يملكون أنفسهم عند الغضب فيقول :( ليس الشديد بالصرعة وانما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)..
http://www.islamicmedicine.org/psychology.htm#Psarabic
" مجلة الإصلاح العدد 296 سنة 1994 " من ندوات جمعية الإعجاز العلمي للقرآن في القاهرة
(2) الخلفيات الاكتسابية
وتأتي الاسباب والخلفيات الاكتسابية في الدرجة الأولى بعد الخلفية التكوينية الخلقية ..
فالانسان يتأثر بما حوله وبمن حوله .. يتأثر بالبيئة والمعشرويتأثر بما يقرأ وبما سمع ويشاهد .. وهو لذلك مسؤول عن الاختيار والاستحسان والاستنساب ، وعن اختيار ما هو مفيد وصحيح منهما، اذ ليس كل شيء سواء ..
فالذي يعاشر المتطرفين يصبح منهم ، وفي الحديث: ( قل لي من تعاشر أقول لك من أنت) ..والذي يلقـّن الأفكار والثقافات المتطرفة لايمكن الا أن يناله نصيب منها .. فالانسان ابن بيئته ، وهو ابن ثقافته ..
ولقد دلت التجارب على أن معظم الغلاة الذي درجوا على التكفيروالتبديع هم ممن تربوا على فكرانعزالي ، ولم ينخرطوا في مؤسسات المجتمع الأهلي ، وعاشوا في بيئات آحادية الانتماء دون أن تكون لهم أدنى احتكاك أوتجربة مع البيئات ذات التعدديات الثقافية والمذهبية والطائفية والسياسية وغيرها !
* القطبية من خلفيات النهج المغالي :
لقد كان للفكر الذي طرحه الشهيد سيد قطب الأثر الأكبر في دفع الحركة الإسلامية باتجاه النهج الاصطفائي في الستينيات، فالحركة في تلك الفترة كانت في مواجهة محنةٍ عاتية.. قادتها يساقون إلى المشانق، وشبابها يرسفون في الأغلال، حيث تمتلئ بهم السجون والمعتقلات؛ كل ذلك كان قائمًا دون أدنى استنكار من خاصةٍ أو عامة، بل إن السلطة تمكنت من تعبئة الجماهير ضد الحركة.
في هذا المناخ بالذات ولد الفكر الاصطفائي لدى سيد قطب كتعبير وجداني عن الظلامات التي تعاني منها الحركة، وكإشارةٍ إلى عدم جدوى "الكم" في عملية التغيير الإسلامي، وإلى ضرورة الاهتمام بالنوع.
ومن هنا توالدت التيارات والاجتهادات القطبية والجهادية والتكفيرية.. الخ، وتباينت وتعددت المذاهب الحركية المتطرفة سلبًا وإيجابًا.. فهذا فريقٌ يدعو إلى عدم التعايش مع المجتمع "الجاهلي" وإلى مقاطعته، وآخرٌ يدعو إلى العزلة المكانية أو العزلة الشعورية ويعتبر أن عملية التربية لا يمكن أن تكون ناجحة ما لم تمارس بعيدًا عن هذا المجتمع وآثاره وضغوطه الفكرية والنفسية.
* السلفية من خلفيات النهج المغالي:
والمدرسة السلفية تتحمل ـ هي الأخرى ـ مساحة كبيرة من المسؤولية التي أدت الى تشكيل ظاهرة التطرف والغلو والعنف . وهذه الظاهرة في النهج السلفي لا تحتاج الى دليل يقدم بين يدي هذا البحث ، حيث يمكن العودة الى ذلك عبر العديد من كتب ومؤلفات هذه المدرسة نفسها .
* أثر مرحلة " الغربة " و " المحنة " في أجيال الصحوة:
ثم انه لابد من الاشارة الى الآثار التي خلفتها المناهج التربوية ـ في مرحلة المحنةـ على الأجيال الاسلامية التي تكونت على" أدبيات الغربة والمحنة" ردحا طويلا من الزمن، والتي أسهمت الى حد في نشوء تنظيمات وحركات وجماعات عنيفة ومتطرفة على امتداد الساحة الاسلامية ..
لقد مرت مرحلة طويلة من الزمن ومناهج التكوين تركز على حتمية الغربة في حياة العاملين ، كما على حتمية المحنة..
ففي مطالع مقررات الحفظ القرآني ، كان مطلوبا حفظ سورة ( أصحاب الأخدود )
ومن مبتديات مقررات الحفظ النبوي ،كان يتصدر قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) وقوله: ( سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام الى امام جائر فنصحه فقتله ) وقوله: ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم )
ومما يلفت في منهج النبوة ـ وأكثرنا عنها غافلون ـ دعوته الى التيسير لا الى التعسير..أحيانا يكون ذلك بشكل مباشر كقوله صلى الله عليه وسلم:( يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) وأحيانا أخرى بشكل غير مباشر كقوله عليه الصلاة والسلام :( ان الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) وقوله :( سددوا وقاربوا)
(3) الظلم الاجتماعي والسياسي والأمني
ومن الخلفيات المساعدة على نشوء ظاهرة العنف والتطرف ، الشعور بالظلم في الواقع المعاش ، وبالتالي عدم توفر أجواء من الحرية تسمح لصاحب الرأي أن يعبر عن رأيه ، أويؤدي ما أتمن عليه من فروض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو يقوم بواجب الحسبة والدعوة الى الله!
وقد يكون الأمرقبل ذلك كذلك ، بسبب عدم تطبيق شرع الله والحكم بما أنزل ، الله فيرى البعض أنفسهم حينذاك مدفوعين ومندفعين لابداء سخطهم واظهار امتعاضهم واعلان استنكارهم ، فان لقوا آذانا صاغية خفت غلواؤهم ، وسكن غضبهم ، وان وجدوا غير ذلك ، تعاظمت نقمتهم ، وباتوا من الانفجار قاب قوسين أوأدنى!
فعندما ينقلب " جمال عبدالناصر على الاخوان المسلمين " ويحكم بالاعدام على قادة الحركة من أمثال المجتهد الكبير الشهيد عبدالقادرعودة ، والقائد العالم المجاد الشيخ محمد فرغلي ..
وعندما يعلق سيد قطب المستشار الفكري للثورة المصرية وعدد كبير من اخوانه بحبل المشنقة ، وهم الفئة الأهلية الوحيدة التي أيدت الثورة ـ بشهادة أنور السادات في كتابه ( يا ولدي هذا عمك جمال ) بل ان الضابط الكبير عبدالمنعم عبدالرؤوف الذي اقتحم قصر عابدين وأشرف على ترحيل الملك فاروق من مصر ، هو من الاخوان المسلمين ، فكيف سيكون بالتالي أثركل ذلك على رجال الحركة وشبابها ؟؟
وأحيانا أخرى يكون الظلم اقـتصاديا معـيشيا ، فــيدفع الى" ثـورة جائعــيـن أو" ثورة محرومين" كما حدث في لبنان، وأدي الى فتن عمياء وحرب ضروس أكلت الأخضر واليابس !! ولقد لفت الرسول صلى الله عليه وسلم الى خطورة الظلم هذه فقال :( عجبت لاناس .. لايخرجون بالسيوف ) + ( كاد الفقر أن يكون كفرا )
(4) القهر العالمي والتسلط الخارجي
ومن الخلفيات ذات الصلة المباشرة بنشوء ظواهر العنف والتطرف في هذا العصر ، ممارسة الدول الكبرى والقوى العظمى لأبشع أنواع النهب والقمع والارهاب بحق المسلمين عموما وبحق دول العالم الثالث خصوصا .
فما جرى بحق الخلافة العثمانية والشيششان وكشمير ودول البلقان وغيرها وما جرى في أفغانستان والعراق ، وما يجري في فلسطين اليوم من حروب ابادة ، من شأنه أن يفعل فعله في المسلمين ، ويؤجج مشاعر الغضب ضد أعدائهم ،وبالتالي يدفعم للتعبير عن استنكارهم بشكل أو بآخر، ومنه ممارسة الارهاب ضدهم.
كيف لا يكون ذلك وهم مطالبون به على لسان نبيهم صلوات ربي وسلامته عليه بقوله : ( من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم )
وكيف لا يكون ذلك وهم تربوا على أدبيات الاسلام ، ومنها قول شاعرهم :
ان نفسا ترتــضي الاسلام ديـــنا .......... ثم تـــرضى بعـده أن تستـكينا
أو ترى الاسلام في أرض مهينا ...........ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
(5) اختراق أالأجزة الأمنية والاستخباراتية للساحة الاسلامية:
ومن خلفيات نشوء ظاهرة العنف والتطرف على الساحة الاسلامية العبثيات التي تمارسها اجهزة المخابرات القطرية والاقليمية والعالمية ، من خلال تجنيد عناصر واستغلال أخرى للقيام بأعمال من شأنها وضع الاسلامين في قفص الاتهام وتشويه صورتهم وصورة الاسلام لدى الرأي العام .
ان العديد من الحوادث التي وقعت في الجزائر ومصر وغيرها والتي كانت تحسب على الاسلاميين هي ذات تخطيط استخباراتي ، بشهادة العديد من الدراسات والوثائق والكتب والدوريات ذات الصلة المباشرة بهذه القضايا .
ومعظم هذه الاختراقات كانت تتم من خلال استغلال الحاجة الى المال وشراء الذمم ، كما من خلال التخلف الذهني والفكري، وعدم الوعي لدى فريق من اقتحموا ساحات العمل الاسلامي من غير سابق اعداد ، ومن غير رقابه !
(6) اخفاق التجارب الاسلامية ذات النهج الوسطي في تحقيق أهدافها :
ومن الخلفيات التي أسهمت الى حد كبير في نشأت التيار العنفي ، فشل النهج الوسطي الذي تعتمده بعض الحركات الاسلامية المعاصرة في تحقيق التغيير الاسلامي المنشود بالرغم من مرور أكثر من نصف قرن على نشأة بعضها .
> دراسة التجارب الاسلامية التالية : * تجربة أفغانستان . * تجربة ايران . * تجربة السودان . * تجربة الجزائر. * تجربة الشيشان ..
(7) عدم وجود مرجعية اسلامية عالمية تتعهد الصحوة وتمسك بها وترشدها :
إن غياب المرجعية الاسلامية العالمية الراشدة الفاعلة جعل الساحة الاسلامية مستباحة ، بل جعلها حقلا للتجارب العبثية ..
من هنا فإن أول خطوة على طريق معالجة ظاهرة الغلو والعنف والتطرف هي ايجاد المرجعية التي تمتلك ناصية الاجتهاد والفتوى ، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :[ يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ ]
(8) عدم وجود مشروع اسلامي عالمي واحد يضبط ايقاع الصحوة :
ومن الاسباب المساعدة على نشوء ظاهرة الغلو والتطرف عدم وجود مشروع اسلامي عالمي مؤصل يشكل خيارا ملزما لكل العاملين على الساحة الاسلامية ، مما جعل الساحة الاسلامية مليئة بالمشاريع المتناقضة ، وغير المتكاملة ، والهوائية والعبثية !!