تسلل الى حياة الاولاد خالطاً الخير بالشر والواقع بالخيال
التلفزيون من اداة تثقيف وتسلية الى "مروّج" للعنف والجنس والمفاهيم المشوهة؟
تحقيق تالا صبّاغ ياغي [ جريدة النهار ]
يعيشون امام التلفزيون و”معه”. اولاد تعددت حالاتهم والتلفزيون واحد. انصهار لا محدود بين الولد، مشروع الفرد الفعال في المجتمع، وبين “علبة” يختلط فيها الحابل بالنابل، المقبول بغير المقبول، الواقع بالخيال. ضيف تسلل الى حياة الولد خلسة فأصبح حاكماً بأمره، ومن دون اي سابق اصرار او تصميم.
العين ترى، فيتأثر العقل! عقول عذراء هشّة تنتهك حرمتها مشاهد وافكار شنيعة مسببة زلازل وبراكين واعاصير وتلوث وكل ما يمكن تصوّره من كوارث طبيعية. من يقف داخل قفص الاتهام؟ ليس التلفزيون طبعاً ولا براءة الاولاد حتماً. فالـ"مجرم" يتمثل في غياب الوعي لدى كل الجهات المعنية وانعدام المشاركة بينها لارساء اسس الخير العام... والطفولة دائماً على المحك!
بين الامس واليوم التلفزيون، اختراع العام 1927 البدائي الذي اصبح وسيلة ثانوية للترفيه والتثقيف، بات اليوم الجليس الاول والاهم للاولاد، ان لم نقل "اوكسيجين" حياتهم.
وتثبت الدراسات الاميركية ان نسبة كبيرة من الاولاد اليوم تمضي وقتاً اطول في مشاهدة التلفزيون منها في اي عمل آخر، باستثناء النوم. كما تشير الى انه مع بلوغ الولد سن السادسة عشرة، يكون جلس امام شاشة التلفزيون اكثر مما جلس على مقاعد الدراسة. ورغم غياب الاحصاءات في بلدنا، نرى ان هذا الواقع الاميركي "ملبنن"، اذ ينطبق بشكل كبير على علاقة الولد اللبناني بالتلفزيون.
"في اي تركيب كيميائي او اي معادلة رياضية، ثمة مواد اساسية ومواد مساعدة او ثانوية، ان لم نحترمها، بطل التركيب ودحضت المعادلة. هكذا التلفزيون عليه ان يكون مادة ثانوية لا اساسية، والا فالكارثة! انطلاقا من هذا التشبيه يعتبر السيد رمزي النجار، (خبير اعلامي واعلاني) ان تغيرات كثيرة طرأت على الاولاد والتلفزيون معاً بين الامس واليوم. ففي الماضي القريب، كان التلفزيون بالنسبة الى الاولاد وسيلة ثانوية لجمع المعلومات وللترفيه، اما الاساس فكان الكتاب والحياة العائلية والاجتماعية والنشاطات المختلفة، الذهنية منها والبدنية. بيد انه اصبح اليوم المنهل الوحيد ومصدر متعتهم المطلقة، لا بل "مرشدهم الروحي" في احيان كثيرة. وهنا تكمن الخطورة: تطور غير مبرمج وغير مبرر، تحولت معه القيم المضافة التي كان يطرحها التلفزيون قيماً مطلقة او حتى "مقدّسة". فأين المعنيون من الوعي والتوعية؟
في الماضي كان خيال الولد مدعواً الى اكتشاف المعرفة والحقائق الكونية بطريقة يدوية، تتسم بكثير من الجهد الشخصي والبساطة. وفي الامس، كان الكتاب خير رفيق للولد، واللعب في الهواء الطلق هوايته المفضلة. اما اليوم، فتراه مسمراً امام آلة “تقذفه” بوابل من الرسائل المتباينة، آمنة كانت او لا، صحيحة او مشوهة، مقبولة او مرفوضة، وهو لا يحرّك ساكنا! ومرة اخرى، اين المعنيون من الوعي والتوعية؟
المشاركة والخير العام : معجونة طرية تشكّلها الايدي كيفما تريد، اسفنجة تمتص ما تمتص من دون اي غربلة، فتأتي النتيجة سلبية لا بل مأسوية احيانا: صورة للولد الذي يجتاز مرحلة دقيقة من صنع الشخصية وبناء الافكار الجوهرية وتحديد سلّم المقاييس والقيم. والولد مجردٌ مما يسميه علم النفس "دروع الوقاية" التي يتسلح بها لدى بلوغه سن الرشد، بفضل جهود جهات كثيرة هي: الاهل، العائلة، المدرسة، المجتمع، الحياة والكتاب الخ...
ويعتبر النجار ان التلفزيون اليوم هو المصدر الاساسي كي لا نقول الوحيد لجميع "الفيتامينات" الثقافية والترفيهية والادبية والفنية والعلمية التي تبتلعها شخصية الولد. و"الفيتامين ليس دائماً ايجابياً، فهو ليس ضروريا الا لمن في حاجة اليه، كما ان كثرته تؤذي، هذا فضلا عن "الاشتراكات التي يمكن ان تسببها فيتامينات غير متجانسة مع بعضها بعضا".
وهنا، يتحول الفيتامين سمّاً، بحيث تصبح الضحية في حاجة الى الترياق. ولكن لمَ علينا الدخول في هكذا متاهات في حين انه يمكننا اتخاذ تدابير وقائية، تساهم فيها جهات مختلفة؟ وللأهل الدور الأبرز، وخصوصاً متى وجد الولد في جو عائلي يتمتع بالحد الادنى من الوعي والقيم والمثل، ويكون ملقّحاً ضد اي "فيروس" يهدد مناعته الذهنية والنفسية والخُلقية. وفي هذا الاطار على الأهل الاهتمام بعقل الولد اهتماماً حثيثاً ودائماً". كذلك على الأهل ألاّ يتسموا بصورة الحاضر الغائب: الحاضر جسدياً والغائب عن مهمة بثّ القيم التي ينقلها التلفزيون على طريقته، فيعتبره الولد السلطة او المرجعية التي لا تكذب ولا تخطىء "اين الاهل واي دور يمارسون لتفادي تأثير التلفزيون السلبي على أولادهم؟". سؤال تطرحه الآنسة زينة مهنا (اختصاصية في علم النفس العيادي والمرضي ومعالجة نفسية ورئيسة قسم التربية المختصة في جامعة القديس يوسف)، كلما لجأ اليها الاهل مع ولد ضحية بغية معالجته من صدمة نفسية هزت كيانه ونغّصت براءته. وتعتبر مهنا إن "التشفير" الاساسي هو مسؤولية الاهل. من جهة أخرى، يرى السيد النجار ان التلفزيون يسيء الى نفسه، إذ ينبغي عليه تنظيم حملات، اسوة بالخارج، تحض الاهل على مساعدته في ابراز صورته الايجابية والمفيدة وشرحها للاولاد. حملات تحدد كيفية تعامل الاولاد مع التلفزيون، والأهم عدم ادمانه، فغالباً ما تكون الجرعات المفرطة عشوائية ومضرّة. ويضيف النجار: "ان "المشاركة هي الأساس لبناء عقد اجتماعي يضم جميع الشركاء المعنيين، ويصون ما يمكن تسميته بالخير العام".
التلفزيون في لبنان : "ارتجال مطلق!" هذا هو واقع التلفزيون في لبنان اليوم بالنسبة الى النجار. واقع ارتجالي وفردي، محميّ، الى حدّ ما، من "عناية الهية" بحيث يغيب التخطيط وتنعدم الرؤية. ارتجال من الجهات كله: الاهل الذين لا يؤمنون الحد الادنى من المناعة لاولادهم، والمحطات التي لا تأبه بما تبثّ وفي أيّ ساعة. والاتكال على الارتجال جريمة بحق الطفولة ما بعدها جريمة!
هذا الواقع المرّ يمكن "تحليته" إذا تمّ تأسيس جهاز يضمّ هيئات مختلفة، فيكون "دستوراً" اجتماعياً يصون حقوق الاولاد، مانعاً الخرق أو حتى "التعديل". جهاز اجتماعي غير سلطوي وغير قامع، يحدد الضوابط التي ينبغي على الاهل والتربويين والمحطات اتباعها بالتوافق والتراضي. هيئة لا "ننعم" بها الاّ في الحلم، إذ ان الرقابة في لبنان تتناقض تماماً مع ذلك: فهي موسمية مزاجية، تتيح أحياناً اموراً غير مقبولة وتمنع أحيانا اخرى أمورا تافهة. ويشدد السيد النجار في هذا السياق على مبدأ "ممنوع المنع". “كل الجهود التي تبذل، ورغم النيات الحسنة، هي دون المستوى". فنرى مبادرات من المنظمات غير الحكومية ONG التي تقوم بحملات توعية على التلفزيون بدل ان تستهدف خلايا المجتمع كله" كمن يداوي مرضا مميتا بحبة اسبيرين!".
العنف يولّد العنف : "قل لي ما تشاهد أقل لك من انت".
بكلفة لا تتعدى العشرة دولارات، “يلتقط” تلفزيون الولد المسكين ما يناهز مئة محطة، محلية وأجنبية، تتحفه ببرامج مشبعة بالعنف والجنس والانماط الجاهزة. ويكون الولد محظوطا اذا لم ينته به الامر مرميا داخل أحد المصحات العقلية او مستلقيا في واحدة من عيادات العلاج النفسي. فما تأثير كل تلك العوامل السلبية على عقل الولد ونفسيته؟
ان العنف الذي يشاهده الاولاد في الافلام والبرامج ونشرات الاخبار والعاب الفيديو الرائجة اليوم وحتى الرسوم المتحركة المخصصة لهم أساسا يؤدي الى عواقب وخيمة لا بل مأسوية أحيانا. وتستشهد الآنسة مهنا بالكاتب بيرل Pearl الذي يعتبر ان “الاولاد الذين يشاهدون الكثير من العنف على التلفزيون ينظرون الى العالم على انه حقير ومخيف”. والخطورة الكبرى هي في اقتناع الاولاد ان العنف فعال، لا بل مباح، لبلوغ أهداف معينة، فيلجأون اليه في تعاملهم مع أترابهم. وبذلك يصبح العنف قيمة طبيعية، والسلوك العدائي ردة فعل مباشرة.
كما تؤكد الآنسة مهنا رفضها القاطع لنشرات الاخبار لما فيها من صور جثث او حتى أشلاء جثث ودم وحروب، وذلك في ساعة لا يزال الولد فيها مستيقظا يتناول العشاء مع أهله، أمام التلفزيون طبعا. عنف، واقعا كان ام خيالا، يخلق عند الولد شعورا بالذنب والقلق الوسواسي الى كوابيس تطارده ليل نهار.
ومن منا لم تصعقه جريمة قتل نفذها، قبل ثلاثة اسابيع تقريبا، مراهق في السادسة عشرة من عمره عندما قتل صاحبه على طريقة لعبة فيديو man hunt هدفها اصطياد البشر لجمع أكبر عدد من العلامات؟ ذنبه الوحيد انه بات مهووسا بها، فخلط العنف الذي يعيشه في الخيال بالواقع. مراهق لا ذنب له، قاتل ومقتول في الوقت عينه.
الجنس "بالغلط" : أما الجنس، فحدث ولا حرج. مشاهد تراوح من قبلة “بريئة” مطبوعة على الشفتين، الى افلام خلاعية حيوانية (وعذرا من الحيوان على هذا التشبيه). وتشير الآنسة مهنا الى انها تعالج أولادا يعانون الانهيار العصبي والصدمات النفسية نتيجة مشاهدتهم تلك الافلام ودائما “بالغلط”، كما يقول لها الأهل. فما هو هذا الغلط الذي يفرض على الاولاد حكما مؤبدا يعيشون بموجبه في دوامة الاضطرابات الجنسية والصورة المشوهة عن جسدهم لما له من مدلولات جنسية؟ هذا فضلا عن اولاد يتأثرون الى حد اعادة تجسيد المشاهد الجنسية بين بعضهم بعضا.
أنماط جاهزة ومفاهيم مشوّهة : من يدخّن السيجار الكوبي يتسم بالثراء، ومن يرتكب جريمة قتل هو حكما من عرق معين، والمرأة دائما ممرضة اما الطبيب فرجل الخ... انماط جاهزة تنقش في عقول الصغار فيتبنونها فيما بعد لتصبح تعميما بدل ان تكون مجرد حالة.تسطيح خطر لمفاهيم العرق والجنس (رجل وامرأة) يشجع على حضارة الغلط، فيصبح الغلط القاعدة والصح هو الشواذ. ومن العناصر التلفزيونية التي تصدّر، الى حد كبير، الانماط الجاهزة: الاعلانات التي تسوّق للثلاجة والسيارة والسيجار الخ... عبر صورة المرأة، وغالبا “كما خلقتني يا رب”. فأي انعكاس لذلك على الفتاة البريئة، مشروع المرأة، وعلى صورتها في عين الفتى، رجل المستبقل؟ وما هي عواقب التماثل وبين الاولاد وبين هذه النماذج “المشرّفة”؟
جرثومة "الزابينغ" : وثمة جرثومة خطرة تفتك بعقل الولد اثر مشاهدته المفرطة للتلفزيون: قلة التركيز. جرثومة تصيب عضلة عقله بشلل لا يستهان به. في يده جهاز التحكم عن بعد، فيغوص في ما يسمى “الزابينغ” Zapping في لغة الاعلام، أي تغيير المحطات كيفما يشاء وساعة يشاء. سهولة امكان تغيير برنامج تشعره بالملل مما ينعكس سهولة في نقل تركيزه من نقطة الى اخرى، وبلا أي عناء. عادة ترافقه الى المدرسة، فمتى يمل من شرح الاستاذ “يكبس على” عقله اوتوماتيكيا بواسطة زر “الزابينغ” لينتقي ما يهمه ويمتعه أكثر. وهنا الفشل المدرسي الذريع وصرخة الاهل المدوية! وقد جاءت صناعة “الفيديو كليب” لتكرس قلة التركيز تلك وتعززها، اذ تفتقر الى المنطق وتسلسل الافكار والمحاكاة، فتقتل كل ما في الولد من قدرة على الخلق المنطقي والابداع البناء.
خلل الحركة والبدانة: جسد الولد هدف لا يوفّره التلفزيون، فيكون فريسة خلل في الحركة والبدانة. وتعتبر الآنسة مهنا ان للولد حاجات نفسية وبدنية ملحة Besoins psycomoteurs تشبعها النشاطات الرياضية والترفيهية في الطبيعة وفي الهواء الطلق، حيث مساحات شاسعة يطلق الولد فيها العنان لطاقاته الجسدية، وهو امر يتعذر عليه تحقيقه بين اربعة جدران. حاجات يمارس عليها التلفزيون اليوم سياسة الكبت والقمع مما يؤدي الى نتيجة متناقضة: الخمول من جهة وكثرة الحركة Hyperactivitث – – . وفي الحالتين يكون الولد الخاسر الاكبر. اما آخر صرعة تلفزيونية: تلفزيون الواقع (24 ساعة على 24) فيسلب الولد العيش، اذ ينكب على مشاهدة اناس يعيشون. هكذا تصبح البدانة نتيجة حتمية لوضعية الجلوس التي يتخذها الولد اثناء مشاهدة التلفزيون، وبالتالي قلة الحركة.
هذا اضافة الى سياسة الاكل النهم التي يتبعها والتي تشكل لذة لا تفارقه البتة. اضف الى ذلك اعلانات الطعام التي تمارس عليه نظرية "بافلوف"، فيسيل لعابه ويسارع الى المطبخ ملتهما ما لذ وطاب.
الاعلانات خرق لخطوط حمر:
"لست في وارد مهاجمة الاعلانات اذ اعتبر نفسي من مؤسسي هذه المهنة بشكلها الحديث في لبنان، لكنني، وبجرأة كلية، ارفض الاعلان المتسلل الذي يغتصب حقوق الولد بطرق غير نزيهة، منتهكا براءة لا تتقن التنازلات". بهذا الكلام يعالج النجار ظاهرة الاعلانات التي "تحاصر" برامج الاولاد المحلية الخالية من اي اهداف واضحة تحاكي تطلعات الولد. وهي برامج غير مدروسة يحشون بها وقتا محددا بكلفة زهيدة ويمررون من خلالها اعلانات لمنتجات معينة.
لقد اصبح الولد اليوم هدفا لسوق الاعلانات ، يدر عليها اموالا طائلة بينما تسجل في مرماه مخالفات و”فاولات”: ويعي القيمون على الاعلانات ان صانع القرار اليوم هو الولد “بالواسطة” لا الاهل. فهو، وان افتقر الى القدرة الشرائية، اعتبر غنيا في قدرته على "النق" والضغط. لذا تخرق خطوط حمر كاقحام ولد في اطار لا يمت له بصلة ولا يناسب عمره اصلا. ومن البدع الاعلانية في هذا الاطار "اللوليتا" التي تستهدف فتيات تراوح اعمارهن بين 9 و11 عاما وتسوق لهن منتجات غير لائقة (كملابس داخلية مثيرة...) عوضا عن الدمى، فيصبحن عينات عن صورة المرأة المثيرة ويتمثلن بنماذج الاغراء التي يشاهدنها في الاعللانات. واقع يحرق، للاسف، مراحل مهمة من اعمارهن. لكن هذا لا ينفي وجود اعلانات هادفة ومفيدة للاولاد كاعلانات الشوكولا والعلكة في اوروبا والولايات المتحدة الاميركية (بعكس لبنان) التي تتضمن تحذيرا موجها الى الاهل والاولاد معا يعالج سلبيات الاسراف في تناول هذه المأكولات ومخاطرها على الصحة والاسنان.
فمتى نستقي من الغرب حضارة الوعي والقيم لاحضارة الجهل والاغراق؟
لمَ لا يبقى التلفزيون وسيلة ثانوية لجمع المعلومات والترفيه؟ لمَ لا يتم التحكم في عدد ساعات المشاهدة وفي النوعية؟ لمَ يتحول التلفزيون اليوم، وبسحر ساحر ارهابا متنكرا بلباس التثقيف والتسلية؟ لمَ يدمن الاولاد التلفزيون فـ"يلقمهم" جرعات مفرطة وعشوائية من الصور والافكار والمفاهيم؟
تساؤلات كثيرة تطرح واقعا مفروضا ومرفوضا. فهل من يتحرك قبل فوات الاوان؟ |