louis vuitton
ugg online
التعريف بالمؤسسة
نشاط سالم يكن
بيانات ومواقف
الإخوان المسلمون
الحركات الإسلامية
الجماعة الإسلامية
فقهيات معاصرة
مراصد الموقع
أبواب دعوية
إستشارات دعوية
حوارات ومحاضرات
بأقلام الدعاة
مواقع صديقة
ملفات خاصة
اتصل بنا


  فقهيات دعوية | الدعوة بين السائل والمجيب

المحنة تصنع الرجال
سؤال

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
لقد جلست أنا ورفيق دربي نتدارس أحوال دعوتنا وعطائنا الدعوي المحدود الذي لا يتناسب مع متطلبات العصر الذي نعيش فيه، ولا مع جهود أعدائنا التي نواجهها، ولا مع تضحيات أسلافنا من عصور المجد والعزة في تاريخنا الإسلامي؛ فقال لي: ولكن ذلك لظروف الحياة التي نعيشها التي ليس فيها ما يشعل الحماسة بداخلنا مثلما يحدث في فلسطين، وحينما تأتى المحن سنكون رجالاً، وإن المحن هي التي تصنع الرجال؛ قلت له: ولكني أعرف أنَّ المحن تظهر معدن الرجال فقط، ولابد من أن يكون هناك إعداد ومجاهدة قديمة لكي تكون عونا لنا وقت المحن، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) رواه السيوطي وحسنه الألباني، فهل نرضى بهذا الحال الذي نحن فيه والذي لا يتناسب مع تحديات العصر، وننتظر المحن حتى تجيء ومنها سنخرج أصلب عودًا وأقوى إيمانًا؟ أم أن الإعداد والمجاهدة تكون قبل المحن؟
رجاء أن يجيب على رسالتي أستاذنا الدكتور فتحي يكن إن كان ذلك في استطاعتكم.
وجزاكم الله خيرا.

 جواب

أخي الكريم محمود حفظك الله ورفيق دربك.. وبعد؛
معذرة لتأخري عليك بالإجابة، بسبب وعكةٍ صحيَّةٍ ألمّت بي، عافانا الله وعافاك في الدين والدنيا والآخرة.

جميلٌ أن تجلس وأخيك في الله "رفيق دربك" تتشاوران وتتنادمان حول شؤون الدعوة والعمل للإسلام، وأن يشحذ أحدكما همّة الآخر لمزيدٍ من البذل والعطاء، ولكن اعذرني أن أتوقَّف معك عند عددٍ من الملاحظات استقيتها من رسالتك، والمستشار مؤتمنٌ كما تعرف، وصديقك من صدقك لا من صدّقك.
- أستحسن أن تستبدل عبارة "رفيق دربك" بأخيك في الله، فكثيرون هم رفاق الدرب، إنما القليل هم المتحابون في الله المتناصحون فيه، وهؤلاء هم الذين يحفظهم الله بحفظه، ويكلؤهم برعايته، ويسدد على الحق سيرهم ومسارهم: (وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم).

- جميلٌ أن نستحث أنفسنا ونطالبها بمزيدٍ من العطاء، وأن نحرص على أن يكون عطاؤنا متناميًا.. إنما الأجمل أن يكون عطاؤنا مستمرًا، وكما قيل: "القليل الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع".

- أن نتنادم فيما بيننا ونتبادل أطراف الحديث حول شؤون المسلمين، وأن نقارن بين عطاءات السابقين واللاحقين، وأن نستشعر ضراوة التحدي وشراسة الهجمة على الإسلام والمسلمين وكفى، ومن غير أن يدفعنا ذلك إلى استنهاض الهمَّة والإسهام في كشف الغمة، سيجعلنا شاهد زور، لا تعدو أن تكون جلساتنا كلامًا في كلام، وشاهدةً علينا لا لنا.

- أن نكون مسلمين مؤمنين، فإن هذا يعني أنَّنا أصحاب قضيَّة وأننا أصحاب همّ، سواء كنا نعيش في فلسطين أو العراق أو غيرها، فالإسلام قضيتنا الكبرى والتي منها تتوالد كل القضايا.. فإن عشنا -بصدق- همّ الإسلام، فإن هذا يجعلنا نعيش -تلقائيًّا- همّ المسلمين وقضاياهم في كل مكان.

- المحن قدر من أقدار الله تعالى، يمحص بها، ويعاقب بها، ويكفِّر بها، ولله تعالى في خلقه شؤون، وصدق الله تعالى حيث يقول: (ألم * أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون * ولقد فتنَّا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين).

ليس مطلوبًا منَّا -بل مكروه لنا- أن نطلب المحنة وأن نتمنَّاها، والمطلوب أن نسأله تعالى الثبات عند ورودها ووقوعها، وكما روي: "لا تتمنّوا البلاء".
- فكم من محنةٍ جعلت الحليم حيرانًا.
- وكم من محنة صيَّرت المؤمن كافرًا.
- وكم من محنة أفقدت العاقل عقله، وأطفأت نور بصيرته، فإذا به يخبط خبط عشواء، وكأنه المعنيّ بقول الشاعر:
يجري على الإنسان في أيام محنته....... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

في ضوء ذلك أودُّ أن أقول لكما -معًا- أيها الأخوان الكريمان والرفيقان الحميمان:
انهضا، متوكِّلين على الله.. اعزما على العمل، واطرحا عن أنفسكما ما يداخلكما ويساوركما من قيل وقال، لا أحسبه إلا من المعوقات والمثبطات، فالعمل يبعث على العمل، كما القعود والكسل، فإنهما لا يفضيان إلا إلى القعود والكسل.

إنها البداية.. والبداية السليمة الصحيحة بعون الله، وأرجو أن تصلني أخباركما، وأن أسعد بما أسمعه عنكما.
حفظكما الله وسدّد خطاكما لما يحبه ويرضاه، والله معكما ولن يتركما أعمالكم .

 

المحنة أو الغربة الخيار الصعب
سؤال

أستاذي الفاضل حفظك الله ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..


فأشهد الله عز وجل أني أحبك في الله، وأسأل الله أن يبارك في جهودكم لخدمة الإسلام والمسلمين.
أكتب إلى سيادتكم هذه الرسالة وكلي ثقة أنكم لن تبخلوا عليّ بالنصح والدعاء.
أنا شاب في المرحلة الجامعية، رُزقت ولله الحمد صحبة صالحة وتربيت معهم على الفهم الصحيح للإسلام وانتظمت معهم في الدعوة إلى الله، وأحمد الله عز وجل أن اختار لي هذا الطريق الذي أحببته كثيرا، وأسأل الله أن يثبتني عليه، وكما هي طبيعة هذا الطريق تعرضت لمحنة الاعتقال وتعرضت لبعض الضغوط التي كان أهمها هو محاولة استمالتي للعمل جاسوسا على إخواني، ثم خرجت بعد أربعة أيام وقد وقعت في خطأ كبير وهو أني وافقتهم على ذلك ظاهريا على أساس أن أخرج وبعدها أتصرف، ولكن هذا التصرف ناتج عن عدم الثبات وذلك لضعف إيمانياتي، المهم أن الملاحقة لم تتوقف وبصراحة أحسست بالخوف والقلق، وأصابني شيء من اليأس لأني لم أصبر وأثبت في تجربتي الأولى، ثم قررت أن أسافر حيث يقيم ويعمل والدي وأسرتي في بلد عربي آخر، وأنا الآن مقيم مع والدي وأسرتي، ولكني أعاني من تأنيب الضمير..
أولا لأني لم أثبت ولم أسمع لكلام إخواني في عدم السفر، وأيضا لأنني لم أصبر على ما عاهدت الله عليه.
وثانيا: من ناحية دراستي معرض لفقد الكلية والبدء من جديد.
وثالثا: أنني في هذا البلد الذي أقيم فيه الآن لم أعد أعمل لدعوة الله كما كنت في السابق ولا بنسبة 5% مما سبق، وأمامي الآن أحد أمرين:
إما أن أظل هنا وأبدأ من السنة القادمة في كلية جديدة وأظل فيها الأربع سنوات ثم أعود إلى بلدي ومعي شهادتي وربما يكون الحال قد تغير حينها سواء بالنسبة للوضع الأمني أو إيمانياتي.
وإما أن أعمل حتى بداية السنة القادمة وأحاول ادخار مبلغ من المال حتى أستطيع أن أعف نفسي بالزواج لأن ذلك من أسباب ضعف إيماني، ثم أعود في بداية السنة الدراسية لإكمال السنتين الباقيتين في كليتي وأتعايش مع الأوضاع هناك كباقي إخواني وأعيش حياتي في إطارها الطبيعي بدون غربة، وعليَّ أن أتوقع أي شيء يحدث لي حتى.
أنا في حيرة شديدة بين هذين الخيارين ولكني أميل إلى خيار الرجوع إلى بلدي ولكن بدافع العاطفة فهي بلدي وهناك إخواني الذين أحبهم وأنا لا أطيق الغربة، ولأني سأعود للحياة الدعوية التي نذرت نفسي لها، ولأني أيضا لن أضيع الكلية، ولأني أيضا سأستطيع أن أعف نفسي بالزواج بما ادخرت من مال، ولكني كلما فكرت في ذلك تذكرت ما حدث لي وأخشى أن يتكرر عدم ثباتي.
أرجو أن أكون قد وُفقت في تفصيل الموضوع حتى يتسنى لك أستاذي الفاضل أن ترجح لي أحد الخيارين وتنصحني بما تراه صوابا.
أعتذر عن الإطالة، ولا تنسني من صالح دعائك، وجزاك الله خير الجزاء.

جواب

أخي الكريم عبد الله، حفظك الله وأعانك وسدد خطاك..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛
إن من نعم الله عليك أن رزقك الأخيار من الأصحاب، وهيأ لك البيئة التي تعينك على أمر دينك ودنياك، وهذا وحده يمكن أن يختصر علينا طريق المعالجة بعون الله تعالى.
* يـُـفهم من مطلع رسالتك أنك انتظمت في الدعوة، وهذا الأمر يجعل من حقِّ الدعوة أن تستشير أهلها فيما يعرض لك من أمور، وبخاصة أن ما تواجهه من متاعب قد يكون بسبب انتمائك إليها على ما أظن، وأهل مكة أدرى بشعابها، وما أظن إلا أنهم مقدرون لظروف المرحلة وما تقتضيه من حكمة وحسن تصرف.
أسوق ذلك لارتباطه بالتوجه الذي ستعتمده والقرار الذي ستتخذه، ولضرورة أن يُبنى التوجه والقرار على اعتبارات جماعية ومصلحة إسلامية عليا، وليس على اعتبارات شخصية محدودة.

* إن من أولويات ما يجب أن ندركه ونوطن أنفسنا عليه، أن الدعوة إلى الإسلام لها تكاليفها، وأن الجنة حفت بالمكاره، وأن سلعة الله غالية، وأنه لا مفر من الابتلاء، مصداقًا لقوله تعالى: (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)، وقوله: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) فلا دعوة بدون تكاليف، ولا جنة من غير ثمن، وصدق الله تعالى حيث يقول: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).

* صحيحٌ أننا منهيون عن تمنِّي البلاء لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا البلاء) كما أننا مطالبون بعدم رمي أنفسنا في التهلكة، ولكن من الصحيح كذلك أن ندرك أنَّ التهلكة لا تكمن في المضايقات الأمنية فحسب، وأن في الحياة الدنيا من الفتن ما يمكن أن يفسد الدين ويزعزع الإيمان واليقين! (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم).

* إن أخشى ما أخشاه عليك -إن اخترت العيش في بلاد الاغتراب- أن تصاب بعقدة الذنب، وأن يلازمك الشعور بالهزيمة النفسية، وبالفرار من تكاليف الدعوة ومحنها، والتي تتحول في معظم الأحيان إلى منحة ربانية وعلوّ قدر وقوة إيمان!
إن كل من فعل ذلك كان يشعر أنه المعني بالخطاب القرآني: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا).

أخي الكريم؛
أنت لست بعيدًا عن الخيار السليم والقرار القويم.. والنقاط التي سجلتها في ختام رسالتك تؤكد سلامة تفكيرك، وطيب معدنك.. وحتى شعورك "بضعف إيمانياتك" فهو حافز لك بعون الله على الارتقاء في مدارج السالكين ومعارج الصالحين.
ليس عليك إلا أن تستخير ربك، وتبرم أمرك، وكن على ثقة بأن الله معك، لن يتركك ولن يضيعك، واعلم أن الدنيا ساعة، فاجعلها طاعة.. والله

منهجٌ لتكوين الدعاة.. ووسائل للإقناع
سؤال

أنا أخٌ أعمل في ميدان الدعوة، وأرجو أن تفيدوني -يرحمكم الله- ما المفاهيم التي يجب أن يوصلها الداعية للمدعوّ؟ وما أساليب الإقناع التي يجب أن يستخدمها؟

 جواب

العاملون في الحقل الإسلامي في أمسّ الحاجة اليوم إلى منهج "تبليغ" يتقيدون به، وإلى منطلقات فكرية وحركية يصدرون عنها في نطاق دعوة الناس إلى الإسلام.. وإلى أن يكون كل ذلك من الدقة والوضوح بحيث تتحقق معها الرؤيا لأبعاد الطريق وخصائصه ومواصفاته فلا يخبطون بعدها خبط عشواء، أو يسيئون إلى الإسلام وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
ولذلك فهم بحاجة إلى منهج يحدد لهم طريق الدعوة إلى الله، وكيفية مخاطبة الناس وإقناعهم، كما يحدد الموضوعات التي يحسن طرحها عليهم وتبسيطها لهم.
هذا المنهج يتألف - في نظري - من أربعة مباحث:
المبحث الأول:
وهو عبارة عن عرض للخطوط الكبرى التي يقوم عليها المنهج الإسلامي سواء في نطاق العقيدة أم في نطاق الشريعة.. وهذه تشكل بمجموعها الموضوعات التي يحسن طرحها على بساط البحث أمام العناصر المراد دعوتها..
المبحث الثاني:
ويدور حول فرضية الدعوة إلى الله… وأن الإيمان بالإسلام يقتضي العمل له، والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، وأن ذلك يقتضي قيام تجمع.. وأن العمل الفردي لن يأتي بواقع إسلامي أو يحدث مجتمعًا إسلاميًّا.
المبحث الثالث:
وهو عبارة عن تأكيد ضرورة قيام عمل جماعي للإسلام، وأنه -أي العمل الجماعي- هو الطريق الذي انتهجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بناء الجماعة الإسلامية الأولى.. وأن كل عمل فردي للإسلام مآله إلى الضياع ما لم يرتبط بتكوينٍ جماعي.
المبحث الرابع:
وأما المبحث الرابع والأخير فهو عبارة عن عرض للأسلوب الذي يحسن اتباعه في دعوة الناس إلى الإسلام.. وأن على الدعاة أن يخاطبوا الناس من حيث تقدَّر استجابتهم، وأن يخاطبوهم على قدر عقولهم.. وأن تكون سياستهم في ذلك الدراية والحكمة والصبر..

أما أساليب الإقناع، ففي مجملها:
- خاطبوا الناس على قدر عقولهم:
ينبغي ألا يفهم مما تقدم أن الطريق لدعوة الناس إلى الإسلام، ولفتهم إليه، واحد لا ثاني له، وهو طريق الإقناع العقدي الذي يبدأ بإثبات وجود الله، وينتهي بإثبات أن الإسلام منهج حياة، وأن العمل لاستئناف الحياة الإسلامية واجب على كل مسلم..
والمقصود هنا بطريق الدعوة، المدخل الذي يمكن أن يدخل منه الداعية إلى نفس المدعو حتى يتمكن من إقناعه بالفكرة، وجذبه إلى العمل للإسلام.
ونحن حيال هذا الموضوع وأمثاله ينبغي أن نَصدُر عن أحكام شرعية نعتبرها أساسًا لنَهْجنا وتصرفاتنا، حتى لا يغدو العمل الإسلامي اعتباطيًّا عفويًّا تتحكم فيه العواطف والأهواء والاجتهادات الشخصية، وتخرجه بالتالي عن الحدود والقيود التي وضعها الشرع صيانة له من العوج والانحراف.
بديهي جدًّا أن الناس اليوم بحاجة إلى ما يلفتهم إلى الإسلام أولاً، يشعرهم بوجوده كمنهج حياة، كإمامة، كقيادة، كريادة وسط التيارات والقوى العالمية المتصارعة، وبديهي كذلك أيضًا أن عملية اللفت هذه خطوة تمهيدية تسبق عملية الإقناع، بل هي أشبه بخطوة أولية لتحضير عقول الناس ونفوسهم للتلقي والانفعال.. وهدي الإسلام في هذا الموضوع يظهر بوضوح حين تتبع الأسلوب القرآني والنبوي في دعوة الناس إلى الإسلام..
فمن الأساليب التي اعتمدها القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا في سبيل لفت المشركين إلى آياته البينات - وقد كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم لدى سماعها - تصديره فواتح السور بحروف متقطعة كان لها أكبر الأثر في إثارة حفيظة المشركين واستدراجهم للإنصات والتلقي.
ولم تكن الأساليب التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس إلى الإسلام ولفتهم إليه إلا تفسيرًا عمليًّا للتوجيه الرباني الكريم المتوّج بقوله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"، وقوله: "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا"، لقد كان من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع أسلوب الزجر النفسي غير المباشر حين جاءه شاب يطلب منه السماح له بالزنى، والحادث ثابت في كتب السنة، وسيرد بعد قليل.
بين الشدة واللين
فالنفوس جُبِلت على حب من أحسن إليها، وقد تدفعها القسوة والشدة أحيانًا إلى المكابرة والإصرار والنفور فتأخذها العزة بالإثم.. وليس من معنى الدين المداهنة والرياء والنفاق.. وإنما بذل النصح وإسداء المعروف بأسلوب دَمِث مؤثر، يفتح القلوب ويشرح الصدور، خاصة إذا كانت الدعوة لجماعة المسلمين أنه لا ينبغي بحالٍ مجاهرتهم بالتوبيخ والتقريع الشديدين…
ألا ترى إلى القرآن الكريم في معرض التوجيه الرباني يخاطب موسى وهارون عليهما السلام، ويوصيهما بمبادأة الطاغية فرعون باللين والحسنى: "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى"، بل إن اللفتات القرآنية والإشارات النبوية إلى الرفق ومجانبة الغلظة والقسوة تؤكد بما لا يحتمل الشك فاعلية هذا الأسلوب وقيمته التوجيهية.
ـ ويقول الله تعالى في آخر سورة النحل آمرًا نبيه بالتزام الحكمة في دعوة الناس: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدَين"، وفسّرها ابن كثير بقوله: أي من احتاج إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.
وفي سورة آل عمران يشير القرآن الكريم إلى فوائد الرفق واللين في كسب الأنصار والمؤيدين، وانطلاق الدعوة والتفاف القلوب حولها: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…".
وقد ورد في تفسير هذه الآية قول لعبد الله بن عمر رضي الله عنه جاء فيه: "إني أرى صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".
وفي السيرة النبوية نماذج عملية ووقائع تفسيرية للأسلوب الأخّاذ النافذ الذي كان يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الناس بلباقة، فقد روى أبو أمامة: "أن غلامًا شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله.. أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قرّبوه، أدْنُ".. فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحبه لأمك؟" قال: لا، جعلني الله فداك، قال: "كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟"، قال: لا، جعلني الله فداك، قال: "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟" وزاد ابن عوف - أنه ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحدة لا، جعلني الله فداك، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: "اللهم طهِّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه"، فلم يكن شيء أبغض إليه منه، يعني - الزنى.رواه أحمد والطبراني في الكبير.
وأسلوب الدعوة ينبغي أن يكون متجددًا متطورًا في حدود ما يسمح به الإسلام.. ومرونة الإسلام تقتضي العمل على مستوى العصر، وبمختلف الوسائل المشروعة، التي تضمن نقل الإسلام إلى الناس منهج عيش ورسالة حياة، في أجمل صورة وعلى أحسن وجه..
- أساليب أخرى للإقناع:
من طبيعة الدعوة الإسلامية أنها موجهة للناس - كل الناس - على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم وثقافاتهم وبيئاتهم وميولهم واتجاهاتهم.. وهذا يفرض على الدعاة أن يكونوا حكماء بارعين في نقل آرائهم ومفاهيمهم إلى هذه الأصناف الشتى من الناس.. وبالتالي يوجب عليهم أن يعرفوا من أين تؤكل الكتف وكيف.. والداعية الموفق الناجح هو الذي يعطي كل إنسان ما يلزمه من أفكار وتوجيهات، ويحاول أن يقنعه بالفكرة ويجذبه إلى الحركة بالأسلوب الذي يؤثر فيه، وينزله منزله، وهذا سر قول عائشة رضي الله عنها: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنْزِل الناس منازلهم"رواه مسلم.
تعرَّف إلى الشخص قبل دعوته
وإذا كانت المسألة هكذا فإنه يصبح من واجب الداعية أن يتعرف إلى الشخص الذي يود دعوته إلى الإسلام.. يتعرف أفكاره ومفاهيمه وتصوراته ويكتشف علله ومشكلاته.. وهو بذلك سيصل حتمًا إلى معرفة المنافذ التي يمكن أن ينفذ من خلالها إلى نفسه.. وهذا من شأنه أن يوفِّر للداعية التشخيص والمعالجة الناجحين، وبالتالي يُكسِب إلقاءاته وتوجيهاته وإيحاءاته فاعلية التأثير والتفاعل.
من أين تبدأ.. وكيف؟
إن من أبرز الأسئلة التي تواجه الداعية في مجال احتكاكه بالعناصر الجديدة ومحاولة إقناعها بالفكرة الإسلامية هي كيف يبدأ دعوته؟ ومن أين تكون البداية؟.. والحقيقة أن الإصابة في تحديد نقطة البدء توفِّر على الداعية كثيرًا من الوقت، وتسهل عملية الإقناع والجذب.. وفي كثير من الأحيان يكون فشل الداعية في اجتذاب العناصر الجديدة إلى الدعوة مردّه إلى سوء تقديره لنقطة البدء وسوء تشخيصه للعلَّة المراد تطبيبها - فيبدأ من حيث ينبغي أن ينتهي، أو ينتهي من حيث ينبغي أن يبدأ. وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث يقول: "ما أنت بمحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة".
- من عوامل النجاح:
هنالك عوامل عدة تساعد على نجاح الداعية إلى حد بعيد في مجالات الدعوة، وتحقق له الخصب والأثمار، وتمنحه القدرة على التأثير والتفاعل والإيغال بمبادئه وأفكاره في كل وسط وعلى كل صعيد.
والأسلوب الحسن.. هو أحد العوامل الحساسة الهامة التي توفر على الداعية الوقت والجهد، وتصل به إلى الغاية والمطلوب بأقل التكاليف وأيسرها..
فالداعية في كل مجال من مجالات الدعوة والتبليغ.. في الكتابة.. والخطابة والتحدث.. والنقاش.. في العمل الشعبي.. والنقابي.. والسياسي.. والطلابي، بحاجة إلى الأسلوب الحسن الذي يصيب الهدف ويبلغ القصد.
وقد يكون من أبرز الأمور التي ينبغي توفرها للداعية ليتمتع بالأسلوب الحسن في مجالات دعوته، تعرف على الوسط الذي سيكون ميدانًا لنشاطه وعمله.. يدرس أوضاعه ومشكلاته واتجاهاته وميوله ورغباته.. كالطبيب يرقب عوارض المرض وتطوره ومراحله، ثم يشخّص أسبابه وبواعثه.. على علم ومعرفة.. وعلم بخصائص الداء ومعرفة أسباب الشفاء..
والداعية الناضج كالطبيب الناجح يعرف من أين يبدأ وكيف يبدأ.. ثم لا يبدأ قبل أن تتوفر لديه إمكانية التمحيص والتشخيص والمعالجة، حتى لا يكون عمله سلسة من تجارب فاشلة وأعمال مرتجلة..
والمجتمع اليوم يموج بعديد المذاهب والاتجاهات.. وكلها تتجاذب الناس بما تطلع عليهم من دعايات منمّقة، وأساليب مزوّقة.. تخاطبهم من حيث يصغون ويسمعون.. وتأتيهم من حيث يحسون ويشعرون.. تلامس جروحاتهم، وتتحسس أمراضهم، وتتلمس مشكلاتهم..
ودعاة الإسلام.. يجب ألا يكونوا أقل عناية واهتمامًا بأساليب دعوتهم من سواهم.. فلا يخاطبون العمال الكادحين بلغة "القبوريين"، ولا يناقشون الملاحدة الماديين بلسان "العاطفيين"، وإنما يجعلون لكل مقام مقالاً.
إن الإسلام في هذا الزمن بحاجة إلى دعاة يحسنون عرض أفكاره ومبادئه بأسلوب شيق جذاب.. يؤثِّرون ولا ينفِّرون، ويوضِّحون ولا يعقِّدون ويحسنون فلا يسيئون، وكم من أدعياء شوَّهوا الإسلام بسوء دعوتهم له، وأساءوا إليه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.."

وكلام الداعية المعروف الدكتور فتحي يكن كلامٌ قيِّمٌ بالفعل، ينمُّ عن خبرةٍ عميقة، وتجربةٍ كبيرة، وضع فيه أولاً تصوراً لمنهج تكوين الدعاة، بتأسيسهم أولا، ثم إعلامهم بوجوب الدعوة إلى الله تعالى، ثم بيان طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة الجماعية إلى الله تعالى، وأخيراً وضع نقاطاً أساسية في أساليب التبليغ والدعوة، وضرورة مخاطبة الناس على قدر عقولهم وأفهامهم.
ثم تطرق بعد ذلك لوسائل وطرقٍ للإقناع والتأثير، وعوامل مساعدة على الدعاة الاستفادة منها في الدعوة.

مسئولي حرمني من العمل !!
سؤال

 

ما حدود الطاعة في الله لغيري من الإخوة ؟
خاصةً مع استغلال الأخ لسلطته في حرمان غيره من العمل الدعوي بحجة مصلحة الدعوة وعلاج هذا الأخ من بعض الآفات، وذلك من وجهة نظره بمفرده ودون استشارة غيره.
والأخ المحروم من العمل متأكد من أنَّ هذا الموقف فيه حظٌ للنفس.
مع العلم أنَّ الدعوة في حاجة لجهد هذا الأخ، وأنَّ مدة العقاب تجاوزت السنتين ولم تنتهِ بعد.

جواب

الأخ الكريم السائل، رعاك الله.
إنَّ المشكلة التي طرحتها دائمة الحصول في نطاق العمل التنظيمي، حيث الترتيبات الإدارية والصلاحيات والاجتهادات المختلفة، وما يرافقها من عقليَّات وأمزجة متعدِّدة.
من هنا كانت صعوبة ومشقَّة العمل الجماعي على نفس الإنسان، لارتباط ذلك بموجبات السمع والطاعة، بالرغم من كون الطاعة بالمعروف، وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وصعوبة ما في العمل الجماعي المنظَّم أنَّ العضو مطلوبٌ منه تنفيذ القرارات والأوامر الصادرة عن القيادة ولو خالفَتْ رأيه الشخصي، والقليل القليل هم الذين يكلِّفون أنفسهم عناء عرض الأمر على الشرع لمعرفة مدى توافقه أو تعارضه مع أحكامه، فضلاً عن أن تكون لديهم الجرأة الأدبية في الاعتراض على أولياء الأمور، ممَّا أضفى على قرارات القيادة طابعًا مقدَّسًا لا تجوز مناقشته أو الاعتراض عليه بحالٍ من الأحوال.
أن تكون في الصف عناصر تحبُّ التسلُّط والتفرُّد في القرار، فأمرٌ موجودٌ وغير مستغرَب، إنَّما المستغرَب أن لا يـُعمَد إلى رفع المشكلة إلى سلطةٍ تنظيميَّة أعلى والعمل على معالجتها معالجةً ضمن الأطر التنظيميَّة.
الرسالة لا تدلُّ على أنَّ القضيَّة رُفِعت إلى القيادة، وإنَّما بقيت تتفاعل بين أخٍ يعتبر نفسه مظلومًا وبين مسئولٍ يعتبر المشتكي ظالمًا!!.
ورأيي أن يتم عرض المشكلة على موقع قيادي متقدِّم لتتم معالجتها جذريّا في ضوء دراسة موضوعيَّة، تتاح من خلالها الفرصة للتبيُّن والتمحيص الشرعيين.
إنَّه لا بدَّ من التثبُّت من طبيعة وسلوك المسئول المُشتكَى منه، والتأكُّد ممَّا هو متَّهم به من حبِّ انتقام وكيديَّة، وهل الكيديَّة التي لديه - إن وُجِدت - تطول كل المتعاملين معه، أم أنَّها محصورة في الأخ صاحب الوجع والشكوى؟.

يبدو من خلال الرسالة المقتضبة أنَّ الأخ السائل قد طالته عقوبة تنظيميَّة منعته من متابعة عمل الدعوة، ومن غير أن يبيِّن الأسباب التي قضت بحرمانه من العمل.
فكيف يمكن الطعن في عقوبة تنظيميَّة إن لم تتم معرفة الأسباب التي أوجبتها، ومن غير اطلاع على المخالفة التنظيميَّة، علة العقوبة ومكوناتها؟!!.
ثم إنَّني أود أن أسأل الأخ صاحب الاستشارة: هل التقى بالمشتكَى منه وأفضى إليه بما يحيك في نفسه تجاهه ويساوره من شكوك؟ هل قام بواجب النصح له؟ هل التمس له عذرًا؟ أم أنَّ الحكم الذي أصدره بحقِّه بات مبرمًا غير قابل للاستئناف والتمييز؟.
إنَّ هنالك قواعد وأصولاً شرعيَّة يمكن اعتمادها لمعالجة أمثال هذه المشكلات، أوَّلها التبيُّن، ومنها المصارحة والمناصحة، فالإعذار والتغافر، وليس التشفِّي والانتقام، وصدق الله تعالى حيث يقول: (فإن تنازعتم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً).

 الولاء لله .. قبل التنظيم
سؤال

مشكلتي مع إخواني في منطقتي تتلخَّص في الأتي:
1- الأولويَّة في التربية ليست لتثقيف الفرد وتربيته بقدر ما هي لتربية الفرد على الطاعة والسمع بدون مناقشة.
2- وللسبب السابق تكون الأولويَّة في تولية المسئوليَّات لإخوةٍ ليسوا بقدرات هذا الأخ العلميَّة والثقافيَّة والحركيَّة، ولكن النصيب الأكبر من تقييم الأخ يكون بطاعته لمسئوله.
3- عدم اهتمام الإخوة المسئولين في منطقتي بالثقافة والقراءة، وعلى ذلك فأنت تجد ما تقرأه من فكر الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور عصام العريان والدكتور فتحي يكن وغيرهم من مفكِّري الحركة الإسلاميَّة في واد، وما يطبَّق على أرض الواقع شيءٌ آخرٌ تمامًا.
وإذا سألت، تكون الإجابة: الأخ عليه أن ينفذ ويثق في الأخ المسئول عنه، وسيعلم في المستقبل صحَّة تفكير الإخوة، ولأنِّي لم أعوِّد نفسي على تنفيذ شيءٍ لست مقتنعًا به، فإنَّه إمَّا أن أقوم بالتنفيذ وأنا متكاسل، أو لا أنفذ في بعض الأحيان.
مع العلم أنَّ قوانين الطاعة الزائدة، وغياب حريَّة الفكر أسقطت بعض الإخوة، وفي الطريق إخوةٌ آخرون أخشى أن أكون منهم، فأنا الآن ضَعُف نشاطي للدعوة بعد أن كنت - ولله الحمد - شعلةً من الحماس.
أنا مقتنعٌ بأهمِّيَّة العمل الجماعي، ولكنِّي غير مقتنعٍ أن أجذب شبابًا من خارج الصف مهتمين بالحركة لدينهم لأربِّيهم على الطاعة، وبدلاً من تحرُّك هذا الفرد لدينه فإنَّه يرضيه فقط من العمل للدين الطاعة للأخ المسئول وحضور اللقاءات وكفاه هذا، لأنَّ ذلك هو ما يطلبه الإخوة.
هناك إخوةٌ أفكِّر في دعوتهم للعمل الجماعيّ معنا لثقافتهم وحريَّة فكرهم وأعلم ولله الحمد أنِّي بتوفيقٍ من الله عزَّوجلَّ لديَّ القدرة على إقناعهم وأخرين ممَّن كانوا في الصف لدي القدرة على إرجاعهم إلى الصف، ولكن يعوِّقني علمي بأنَّهم سيرحلون بعد فترةٍ قليلةٍ بلا رجعةٍ لعدم وجود القيادات أصحاب الفكر والثقافة القادرة على استيعابهم، ومازلت أتذكَّر عهدي الأوَّل بالإخوة في بعض الجلسات التي كان الإخوة يسألوننا فيها.. ماذا ستفعل إذا أمرك الأخ المسؤل عنك بعدم حضور امتحان الكلِّيَّة ؟ وكنت أجيب أنِّي سأرفض بالطبع إن لم يبد لي أسبابًا مقنعةً لعدم الحضور، فكانت الإجابة أنَّه على الأخ أن يستجيب لأخيه المسؤل عنه، وأنَّه لن يأمره أبدًا بشيءٍ يضرُّه، وفي لقاءٍ أخر قال أحد الإخوة: على الأخ أن يكون في يد مسؤله كالميِّت في يد مغسِّله، وكان الاعتراض منِّي شديدًا، فقال الأخ مسؤل اللقاء: وماذا ستفعل إذا خالف رأيك رأي مسؤلك فقلت سأنفذه فقط حفاظا على وحدة الصف، وأنا الآن في حيرة.. إلى متى من أجل وحدة الصف وضمان الانتماء الكامل للصف سنضيِّع شبابًا كان من الممكن أن تستفيد منهم الدعوة في المنطقة أكبر استفادة.
مع العلم أنَّه في فترةٍ من الفترات فكَّرت في التخلِّي عن العمل مع الإخوة، ولكنَّني قلت لنفسي: إذا خرج كلُّ إنسانٍ من الصف لأنَّه رأى شيئًا لا يعجبه فمن سيبقى للعمل الجماعي، وخشيت على نفسي أن تأخذني الدنيا، وأنسى ديني والعمل له، والحمد لله هدأت نفسي لما قرَّرت البقاء، ولا تعلمون حجم الحزن والدموع التي سقطت من عيني عندما فكَّرت في الخروج من الصف فأنا لا أستطيع تخيُّل حياتي بدون العمل للإسلام وطاعة الله عزَّ وجلَّ، ولكنِّي أيضًا لا أستطيع أن أبذل جهدًا أشعر أنَّ ثمرته للإسلام والدعوة في منطقتي تزيد عن الصفر بقليل.

جواب

أخي الكريم  رعاك الله؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
فإنَّ المشكلات التي عرضت لها في رسالتك باتت معروفةً من الجميع لكثرة شيوعها وتكرار وقوعها، حتى غدت ظاهرةً مرضيَّةً يكاد لا ينفع معها إلا العلاج الذي يلامس ويتناول أسبابها ويأتي على مسبِّباتها.
إنَّ كلَّ ما عددته وأشرت إليه من أمراضٍ في استشارتك ليس له تفسيرٌ عندي إلا أنَّه جاء نتيجة خللٍ بليغٍ في التربية، إنَّه الخلل التربويُّ الذي يجعل الولاء للتنظيم قبل الإسلام، والطاعة للمخلوق "قائدًا.. أميرًا.. مسؤولاً" قبل الطاعة للخالق ! إنَّه نتيجة اهتزازٍ كبيرٍ في تصنيف وترتيب أولويَّات الولاء والبراء.

إنَّ انتماءنا للإسلام في الأصل هو الذي يجعلنا مسلمين، ويحشرنا في زمرتهم يوم الدين، والانتماء للتنظيم ليس بديلاً عن ذلك، وإنَّما هو وسيلةٌ لحسن تحقيق ذلك، وصدق الله تعالى حيث يقول: (هو سمَّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس).
إنَّ الأنبياء والمرسلين والعلماء والدعاة، كما المؤسَّسات والتنظيمات والجماعات والحركات الإسلاميَّة، إنَّما هم مكلَّفون بخدمة الإسلام وحمل رسالته وتبليغ دعوته والجهاد في سبيله، مصداقًا لقوله تعالى: (يا أيُّها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربِّك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس إنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين).
ثمَّ إنَّ الحكم الإسلامي والحكومات الإسلاميَّة والخلفاء ليسوا إلا أداةً لخدمة الإسلام وتنظيم الاحتكام إليه وإقامة شرعه، وليس لهم أن يحيِّدوا عن الإسلام قيد أنملة: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).

إنَّ الإسلام هو دين الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المنهج الذي به يتعبَّد المسلمون ربَّهم، أفرادًا وجماعاتٍ وحركاتٍ وحكومات، أمَّا التنظيمات وأهلها والعاملون فيها، فهم الخُدَّام لهذا الدين والمسخَّرون للعمل من أجله، وهم في كلِّ الأحوال ليسوا بمعصومين عن الخطأ والزلل، وجميعهم يُؤخَذ منه ويردُّ عليه، وهؤلاء كلُّهم يُعرَفون بالدين ولا يُعرَف الدين بهم.
فالتنظيمات تخطئ وتصيب، وتنجح وتفشل، وهي تزدهر وقد تندثر.. فلكم قامت تنظيماتٌ وحكوماتٌ وممالك عبر التاريخ الإسلامي، ثمَّ أصبحت أثرًا بعد عين، أمَّا الإسلام فهو المحفوظ بحفظ الله، والباقي بفضل الله، والمستمرُّ بأمر الله تعالى، مصداقًا لقوله تعالى: (إنَّا نحن نزَّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون).
إنَّ مجرَّد استهداف التنظيم بالعمل - أي جعل التنظيم هدفًا وغاية - هو لونٌ من ألوان الشِّرك، والله تعالى أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو سبحانه القائل: (قل إنَّما أنا بشرٌ مثلكم يوحَى إليّ أنَّما إلهكم إلهٌ واحدٌ فمن كان يرجو لقاء ربِّه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربِّه أحدًا).

ولقد وعى مؤسِّسو الحركات والتنظيمات الإسلاميَّة الراشدة تلك الحقيقة الثابتة، ويوم أسَّس الأستاذ حسن البنا "جماعة الإخوان المسلمين" واختار لها شعاراتها، لم يجعل للتنظيم أدنى نصيبٍ بينها، فقال: "الله غايتنا – الرسول قدوتنا – القرآن دستورنا – الجهاد سبيلنا – الموت في سبيل الله أسمى أمانينا".
أذكر أنَّني في الستينيات ألقيت خطابًا بمناسبة افتتاح مركزٍ للعمل الإسلاميِّ في مدينة صيدا، وكان في الحضور حشدٌ من العلماء، قلت في مطلع الكلام: هنالك قضيَّةٌ يجب أن ندركها تمام الإدراك، ونعيها تمام الوعي، ونذكرها دائمًا ولا ننسها، وبخاصَّةٍ لدى افتتاحنا اليوم لمركزٍ من مراكز العمل الإسلاميِّ في لبنان، وهي أنَّنا مسلمون قبل أن نكون "إخوانًا مسلمين"، وأنَّنا جماعةٌ من المسلمين ولسنا جماعة المسلمين.. فالإسلام قبلنا وبعدنا، وبنا وبدوننا، وإن نتولَّى يستبدل الله قومًا غيرنا ولن نضرَّه شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين، أوَليس هو القائل في محكم كتابه: (ومن جاهد فإنَّما يجاهد لنفسه إنَّ الله لغنيٌّ عن العالمين).

إنَّ التنظيم الذي يخلص عمله لله، بعيدًا عن أيَّة نفعيَّةٍ أو وصوليَّة، هو التنظيم الذي لا يرى له مصلحةً إلا مصلحة هذا الدين، ويرى في غير ذلك لونًا من ألوان الشرك ووقوعًا فيما نهى الإسلام عنه وحذر منه.
إنَّ هذا التنظيم – إن وُجدَِ - هو الجدير بنصر الله وتأييده، وبإمامة المسلمين وقيادتهم.
في ضوء كلِّ ذلك يكون المطلوب دائمًا وأبدًا تجريد العمل للإسلام من كلِّ لوثةٍ وصوليَّة، أو غرضٍ فرديٍّ أو جماعيٍّ أو تنظيميّ، انسجامًا مع خلوص العبوديَّة لله تعالى، الذي أكَّدته وأكَّدت عليه آياتٌ كريماتٌ عديدة منها قوله تعالى: (قل إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت).
وبحسب هذه المعادلة يكون الولاء لله تعالى وحده، كما يكون شرط السمع والطاعة للقيادة.. طاعتها له والتزامها شرعه، فالطاعة بالمعروف ولا طاعة بالمعصية، وفي الحديث: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبَّ وكره ما لم يُؤمر بمعصية، فإن أُمِر بمعصيةٍ فلا سمع عليه ولا طاعة) رواه البخاري.
وفي خطبة الولاية لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: "أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيتُ فلا طاعة لي عليكم"، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيَّته.. ) الحديث، رواه البخاري.

ووفق هذه القاعدة يصبح شرط الانتماء إلى التنظيم تحقيق الانتماء إلى الإسلام، والتزام مبادئه وقيمه، وحمل رسالته وتبليغ دعوته، والاحتكام إليه، والجهاد في سبيله.
إنَّ أوَّل ما يُسأَل عنه العبد يوم القيامة هو الإسلام، ماذا عمل به، وماذا أخذ منه أو قصَّر فيه ؟
مع الإشارة والتأكيد على أنَّ هذا المفهوم ليس مدعاةً للتقليل من أهمِّيَّة التنظيم وإنَّما سيق للتمييز والتفريق بين الوسيلة والهدف، كما بين الخادم والمخدوم سواءً بسواء.
سائلاً الله تعالى الهدى والسداد واتِّباع طريق الحقِّ والرشاد. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.


عرض الكل
moncler