فتحي يكن
إن الكلام عن الأولويات الحركية في مواجهة الأحداث الاقليمية والعالمية ، يقتضي أولا استعراض هذه الأحداث ، ابتداء من أحداث الحادي عشر من شهر ايلول 2001 ، والتي طالت مركز التجارة العالمي في نيويورك ، ومبنى وزارة الدفاع الاميركية في واشنطن ، وعدداً من المواقع الاخرى ، ومرورا بالحرب على أفغانستان ، وازدياد حملات الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ، وصولا الى زرع المنطقة العربية والعالم الاسلامي بالترسانات العسكرية الأميركية ، واقرارات الدولية بشأن العراق ، والاصرار الاميركي على ضرب العراق ..
وبين يدي كل ذلك لابد من التأكيد على أن ترتيب الأولويات الحركية يختلف باختلاف الظروف الناشئة والحاجات الضاغطة والضرورات القائمة ، وهي ليست واحدة في كل وقت وحين ، وفي كل زمان ومكان ، فلكل اولوياته وخصوصياته .
ويجب أن يكون معلوماً أن الأولويات غير الثوابت ، وأن الثوابت لاتخضع للتغيير والتبديل التي تخضع لها تلك . والاولويات الحركية غير الأولويات العقيدية ، وغير الأولويات العبادية والتربوية والتعليمية وغيرها ، حيث أن لكل جانب من جوانب المنهج الاسلامي اولوياته ، فضلا عن أن هذه الجوانب ـ بحد ذاتها - مصنفة وفق سلم الأولويات كذلك .
ان من اولويات مقاصد الشريعة ، وغايات العمل الاسلامي ، تعبيد الناس لله تعالى في شؤونهم جميعا [ قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك امرت ]
هذا عنوان عريض وثابت ، تصطف تحته كل العناوين الاخرى وفق الاولويات التي تقتضيها الاعتبارات المرحلية والحاجية والضرورية والاستثنائية وغيرها ، وهي حتما ليست سواء ، ولكن دون أن تصرفها قيد شعرة عن الهدف الأساس والمقصد الرئيس ، فهي اشبه بتوجه المسلم الى الكعبة الشريفة كائنا ما كان مكانه وزمانه وحاله والذي يتجلى في قوله تعالى [ فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ]
مثال في أولوية الجهاد:
ففي وقت يشتد التآمر على الاسلام والمسلمين ، على نحو ما حصل بعد الأحداث الاميركية والانتفاضة الفلسطينية ، حيث تعرض العالم الاسلامي لحرب صليبية شاملة بذريعة محاربة الارهاب ،وحيث يعرض الشعب الفلسطيني لمجزرةدموية حقيقية من قبل العدو الصهيوني ..في هذه المرحلة بالذات تصبح الاولوية للجهاد والنصرة ‘ ويصبح كل ما عدا ذلك ـ من أعمال تطوعية ـ ضربا من العبث ..
ولقد عبر عبدالله بن المبارك ـ العالم المجاهد ـ عن هذا المعنى ابلغ تعبير حين نظم قصيدة شعرية بحق واحد من اصحابه ، فضل الاعتكاف في المسجد الحرام على الخروج الى الجهاد حيث جاء في مطلعها :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لوجدت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضـب
الجهاد والاعداد :
ان اعطاء الأولوية للجهاد في الظروف التي ذكرنا ، لايخرج بالحركة عن منهج الاعداد ، ولا يصطدم بمقتضياته ، بل ان الاعداد يصبح اكثر فاعلية وتأثيرا حين يكون في ميادين الجهاد وتعريض النفس لاختبار البذل والتضحية والعطاء ؟
مثال في اولوية التعلم :
ففي اطار بناء الشخصية المسلمة يأتي العلم الشرعي في مقدمة العلوم الاخرى علىاهميتها ، وليس أدل على ذلك من اللفتة النبوية لذلك الاعرابي الذي جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طالبا ان يعلمه من غرائب العلم فقال له سائلا : [ وماذا فعلت في رأس العلم ؟ ] فعندما لم يجب الاعرابي ابتدره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله [ اذهب فتعلم رأس العلم ، ثم تعال اعلمك من غرائب العلم .] قال الاعرابي : وما رأس العلم يارسول الله ؟ قال : [ معرفة الله ]
وفي اولويات الأمة لاكتساب العلوم المختلفة ، والمصنفة على انها [ فرض على الكفاية ] تصبح في عصر من العصور وظرف من الظروف من[ الفروض العينية ] كالعلوم الصناعية والتكنولوجية والعسكرية وغيرها ، وذلك بحسب حاجة الامة اليها والضرورة المقدرة التي تمليها عليها .
مثال في اولوية الحسبة :
وأود أن اسوق في هذا المجال مثالا ميدانيا في اولويات الحسبة حيال ظرف استثنائي ، يمكن أن يغني عن الكثير من الشرح والتفصيل ..
يذكر أن شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله ، مر يوما مع بعض تلاميذه على قوم من التتار أطفأت الخمرة عقولهم ، مع ادعائهم انتحال الاسلام ، فأراد مرافقوه أن ينكروا عليهم فعلتهم عملا بنظام الحسبة ، فقال لهم ابن تيمية [ دعوهم .. الله تعالى يقول " انما يريد الشيطان ليوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدقكم عن ذكر الله وعن الصلاة .." وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل المسلمين ، فدعوهم في سكرهم ]
الأولويات الشرعية تقدم على الأولويات الحركية :
ومما تجدر الاشارة اليه والتركيز عليه في هذا المجال ـ لبالغ أهميته وعظيم خطورته ـ
وجوب تقديم الألويات الشرعية على الأولويات الحركية . وأي اهتزاز في هذه المعادلة من شأنه أن يأتي على الحركة كلها وعلى التنظيم برمته ؟
والمشروع الاسلامي الذي أسس له الامام الشهيد حسن البنا جعل التنظيم في خدمة الاسلام ، كما جعل مصلحة الأمة مقدمة على مصلحة التنظيم .
كان الامام المجدد رضي الله عنه وأرضاه يؤسس لمشروع نهضة الأمة وابتعاثها ، وكان يعتبر التنظيم وسيلة هذه النهضة وأداة ابتعاثها ، ولم يكن التنظيم لديه هدفا من أهداف الجماعة .
ومما يؤثر عنه أن الكثيرين ممن اعجبوا بمنهجه من زعماء الاحزاب والتنظيمات كانوا يقبلون عليهم راغبين في الانتظام بالحركة ، فكان يدعوهم للبقاء في مواقعهم مبينا لهم المصلحة الاسلامية الكبرى التي يمكن ان تتحقق من ذلك للمشروع الاسلامي الذي يستوعبهم جميعا ، وهم في مواقعهم .
ان عدم الأخذ بفقه الاولويات في العمل الحركي ، يمكن أن يجعل الحركة في حالة من انعدام وزن ، يجعلها تخبط خبط عشواء ، كما يمكن ان يصيب العمل في ما يشبه حال الالتباس او الضياع ، حيث تضطرب القواعد والمعايير فيصبح اول الشيء آخره ، وآخر الشيء أوله ، كما يصبح عالي الأمر اسفله وأسفل الأمر عاليه . وصدق الله تعالى حيث يقول [ أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم *قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، قليلا ما تشكرون ] صدق الله العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم . |