الداعية الدكتور فتحي يكن
حول الشورى ، هل هي ملزمة أم معلمة ، كنت قد تناولت هذا الموضوع منذ ما يقرب من عشرين عاماً، وذلك ضمن موضوعات كتاب (مشكلات الدعوة والداعية). واليوم، وبعد مرور هذه الفترة الطويلة، ومن خلال الممارسة التنظيمية، وآثارها التربوية والدعوية والحركية، ومن حيث مستوى السمع والطاعة، وكيفية معالجة المشكلات، وتصريف الأعمال، ومستوى الإنتاجية في كل جوانب العمل الإسلامي. اليوم، أعود من جديد للتأكيد على ما كنت قد ذهبت إليه من فهم لفقه الشورى مبدأً وتطبيقاً.. (والله أعلم). * الشورى من حيث المبدأ: إن الشورى، هي عملية إثراء وتثمين وتصويب للرأي وللقرار، قبل اتخاذه من قبل المسؤول. إنها حالة اجتهاد جماعي بين أصحاب الرأي وأهل الحل والعقد ممن تتوفر فيهم الأهلية، في دراسة قضية ما، وفي تقليب وجهات النظر حولها... من هنا كانت الشورى واجبة من حيث المبدأ، ومطلوبة من المسؤول ابتداءً.. ولا خلاف حول هذا الوجوب، إذ أن معظم النصوص القرآنية والنبوية تفيد الوجوب، كما تفيد الإلزام. من ذلك: - قوله تعالى: [وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله] (آل عمران : 159). - وقوله تعالى: [وأمرهم شورى بينهم] (الشورى : 38). - وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما خاب من استشار وما ضل من استخار والمستشار مؤتمن". - وقوله صلى الله عليه وسلم: "وما تشاور قوم قط إلا هدوا إلى رشد أمرهم".
* الشورى من حيث التطبيق: والرسول صلى الله عليه وسلم، من خلال ممارسته القيادية والرعائية، كان يشاور أصحابه في القضايا الهامة وذات الانعكاس المصيري على شؤون الأمة، ولم يكن يشاورهم دائماً في كل القضايا، وبخاصة تلك التي نحسبها قضايا (تنفيذية وإجرائية)...
* الشورى معلمة وليست ملزمة: من خلال تتبعنا للمارسة الشورية من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، يمكننا الوصول إلى أمر حاسم، وهو أن الشورى (معلمة) وليست ملزمة. والمتتبع لوقائع السيرة النبوية يجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلتزم بآراء الصحابة، ولو كانوا في حالة اجماع على رأي، في حال وجود نص أو وحي في القضية. إذ (لا اجتهاد في معرض النص) بل أن تلك القضية يجب أن تكون محل نقاش وحوار. أما في غير ذلك فكان يستشير، ثم يتخذ القرار ويعزم... فيوم اشتد الأذى على المسلمين في مكة، لم يلجأ رسول صلى الله عليه وسلم محمراً وجهه فقال: "إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم، ويوضع المنشار على مفرق رأس أحدهم فيشق، ما يصرف ذلك عن دينه، وليظهرن الله تعالى هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه" (نور اليقين وباقي السير). وعندما تزايد الأذى واشتدت المحنة ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء. قال لهم وبدون مشورة: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه". فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله مخافة الفتنة، وفرار إلى الله بدينهم. (سيرة ابن هشام). وبعد بيعة العقبة الثانية: وفي أول عملية تنظيمية، انتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم (مصعب بن عمير) أميراً على من أسلم من أهل المدينة، ودون أن يتشاور مع أحد، ودون إجراء انتخاب.. وعندما خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهجرته إلى المدينة – منتظراً أن يؤذن له – هو الذي اختار رفيقه في السفر، من غير سابق استشارة له، حتى ولا إعلام. مما جعل أبا بكر يبكي وهو يصيح عندما سمع الخبر (الصحبة يا رسول الله) حتى قالت عائشة رضي الله عنها: (فوالله ما شعرت قط من قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ). أما ترتيبات الرحلة فقد تعهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسفه، فأمر (عبد الله بن أبي بكر) أن يأتيهما بحصاد أخبار قريش عشية كل يوم. وأمر (عامر بن فهيرة) أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحهما عليها، فيما طلب من (أسماء) أن تأتي بما يحتاجان من طعام. (سيرة ابن هشام). وعندما سمع رسول الله، يخبر قافلة قريش، التي فيها أموالها وتجارتها، ندب الناس للخروج من غير تشاور معهم، وقال: "هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها" سيرة ابن هشام. أما حين تحول المسار من مسار (لمصادرة تجارة) إلى مسار (لحرب وقتال) طلب الرأي والمشورة وألح عليها، وهو يردد: "أشيروا علي أيها القوم" وبعد أن تكلم قادة المهاجرين وقادة الأنصار.. اتخذ قراره، من غير تصويت، وقال: "سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين" سيرة ابن هشام. وبعد انتهاء غزوة بدر، استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فيما يتعلق بمصير (أسرى قريش) وكانوا قد عادوا إلى المدينة، فأشار (عمر بن الخطاب) بضرب أعناقهم، ووافقه على ذلك (سد بن معاذ وعبد الله بن رواحة). وأشار (أبو بكر) ? باستبقائهم، وأخذ الفداء منهم. وبعد التشاور أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، برأي أبي بكر الصديق، ثم جاء القرآن مؤيداً رأي عمر رضي الله عنه في قوله تعالى: [ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض]. وهذا دليل واضح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستشير, ولكن كان القرار الأخير كان له وحده. وحتى ساعة الإستشارة التي أجراها مع أصحابه قبل معركة أحد, حيث كان رأيه وعدد من شيوخ المهاجرين والأنصار، عدم االخروج لقتال المشركين خارج المدينة، إلا أنه نزل عند رأي الشباب الذين اختاروا الخروج، ولقد نزل عند رأيهم – مختاراً – ليكون مربياً ومعلماً لهؤلاء، ودخل حجرته، ولبس عدته، وتقلد سيفه، وألقى الترس وراء ظهره، وعندما خرج، أدرك الشباب أنهم استكرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، قالوا: (يا رسول الله، نتبع رأيك. فقال: "ما كان لنبي لبس سلاحه أن يضعه حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه"). وهذا دليل على أن القرار ابتداء وانتهاء كان له وهو مناط قوله تعالى: [وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله]. نور اليقين. ويوم عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، لم يستشر أحداً وإنما أمر بالتجهز للسفر وأخبر (الصديق)، بالوجهة، بل إنه استنفر عليه السلام الأعراب الذين حول المدينة وقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة"، كي لا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعد للحرب. نور اليقين. كل هذه الحوادث وغيرها تقطع، مما لا يحتمل الشك أن الشورى واجبة من حيث المبدأ، وإن ولي الأمر عليه أن يستشير، أما القرار في النهاية فله وحده، فتتحقق بذلك وحدة القيادة، وليس تعدديتها، كما هو معتمد اليوم في عدد من التنظيمات الإسلامية وغير إسلامية.
* موقع القائد موقع شرعي مسؤول: إن السر في كون الشورى في الإسلام (معلمة) وليست (ملزمة)، أ، القائد في الإسلام، يلي الأحكام الشرعية، ويحتكم إليها. فهو المؤتمن على مصلحة الأمة ورعاية كل شؤونها الدينية والدنيوية، فإن لم يكن جديراً بولاية شؤون الأمة (الدنيوية) فكيف يكون مؤتمناً على ولاية أمورها (الدينية) وهي الأخطر والأكبر؟ ويوم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرج به إلى السماء، وراح يحدث المشركين في اليوم التالي بما رأى، فسخر من سخر، وصفق من صفق، ووضع البعض أيديهم على رؤوسهم تعجباً وإنكاراً، بل ارتد بعض الناس من ضعاف القلوب. وسعى البعض الأخر إلى أبي بكر الصديق سائلاً: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إن كان قال ذلك فقد صدق) فقالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: (إني لأصدقه على أبعد من ذلك..). نور اليقين. وفي رواية لابن هشام.. قال أبو بكر على تساؤل الناس (والله لئن قاله لقد صدق. فما يعجبكم من ذلك، فوالله إنه ليخربني: أ، الخبر آتيه من الله من السماء إلى الأرض، في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه! فهذا أبعد مما تعجبون منه). لقد سقت هذا الدليل، لتبيان أن القيادة في الإسلام، هي (ولاية شرعية) و (مسؤولية دينية)، والمفروض فيمن يختار لها أن يكون صاحب أهلية علمية وورع، إن لم يكن الأكفاء والأروع! ومن هنا يمكن فهم المقاصد الشرعية في اختيار الراعي، والإمام، والقائد، والمسؤول، والتي يعبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه، فقد خان الله ورسوله". وفي رواية "من قلد رجلاً عملاً على عصابة (أي جماعة) وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله وخان رسوله، وخان المؤمنين". رواه الحاكم في صحيحه. وقال عمر رضي الله عنه: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خن الله ورسوله والمسلمين). إن اختيار القائد والأمير والمسؤول وولي الأمر مسؤولية جماعية، لتحقيق الاختيار الأحسن والأفضل كفاءة.. فإذا قدم هذا (الأحسن والأفضل والأكثر كفاءة) فيلزم أن يكون الحكم في المفصلة بين الآراء، والمرجح في اتخاذ القرار، لا أن يكون رأيه كرأي غيره سواء بسواء؟ حتى ولو كان الناس في مستوى واحد من ألأهلية – وهذا لا يمكن أن يكون – فإن المقدم عليهم، يصبح أكثرهم أهلية، لأنه في موقع يمكنه من توظيف مؤهلاتهم جميعاً. ثم كيف يمكن أن يقوم مبدأ السمع والطاعة للقائد، إن كان هذا القائد كسواه أهلية وصلاحية وفاعلية؟
* القيادة في الإسلام فردية وليست جماعية: إن القيادة في الإسلام، فردية، لأنها مسؤولية قرار يتخذ في ضوء شرع الله، ومصلحة المسلمين، وأمام الله. هذه المسؤولية لا يمكن أن تكون (موزّعة) على مجموعة، لأن توزيعها، من شأنه أن يضعفها ويضيعها. وهذا ما يحدث لدى اتخاذ القرارات على الطريقة الغربية (والمسماة ديمقراطية) بالتصويت، حيث تضيع المسؤوليات، ولا يعرف المحسن من المسيء، وقد يتحمل المسؤول الأول مسؤولية الفشل في قرار أو سياسة فازت بالتصويت، وهو مخالف لها؟ كيف يمكن – شرعاً وعقلاً – أن يتحمل إنسان من الناس، مسؤولية تنفيذ قرار، واعتماد سياسة، غير مقتنع بها بل ورافض لها؟ وكيف يمكن لقائد أن يقود، وأن يتحقق له السمع والطاعة، إن كان رأيه ورأي مخالفيه سواء؟ ومن خلال هذا الخلل الفظيع في تصور بعض الإسلاميين (لفقه الشورى) ولصورة القيادة، تتفاقم المشاكل، وتضطرب الخطوات، وتضيع المسؤوليات، وتتكاثر مواقع القوى والنفوذ ضمن الجماعات، وتقوم الصراعات، ويتراجع وينعدم واجب السمع والطاعة، حيث يصبح الجميع قادة، ويصبح القادة بلا قاعدة، ويضحى القرار قراراً ليس (برسم التنفيذ)، إذ الكل منشغل بإبداء الرأي، أو الاعتراض على الرأي أو الاستخفاف بالرأي. وصدق المثال القائل: (لا رأي لمن لا يطاع). بل صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: "إذا رأيت هوى متبعاً، وشحاً مطاعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصية نفسك". والعجيب، أن الأمر وصل ببعض من يعملون للإسلام، إلى تقييد القائد والأمير والمسؤول، والحيلولة بينه وبين أن يمارس مسؤوليته التربوية والدعوية والحركية، الخاصة والعامة، حيث يرى هو ويقدر المصلحة. إذ يعتقد هؤلاء أن (التراتبية التنظيمية) توجب على القائد والمسؤول، أ، يستأذنهم إذا قدّر أن مصلحة ما تقتضي القيام بزيارة إلى (منطقة نفوذهم) أو إلقاء محاضرة أو خطبة جمعة في (منطقة مسؤوليتهم التنظيمية). أو الاجتماع بمن لا يرغبون الاجتماع معهم من خصومهم ومناوئيهم، أو النصات والاستماع إلى شكاوى الآخرين عليهم إلى ما لا نهاية له!! إن نتيجة رأى هؤلاء – وهم لا يعلمون شيئاً من فقه الشورى وفقه الولاء والقيادة – أن يوضع القائد في (سجن أو قفص). يقتحمون هم بابه عندما يريدون أو حينما يقدرون هم المصلحة؟ إن القائد ضمن هذه الرؤيا القاصرة يصبح (جندياً مقوداً) لا قائداً، محاصراً (بقوالب تنظيمية) من شأنها أن تلغي دوره، أو تشوه هذا الدور، وبعد ذلك، ليس له حتى حق الاعتراض؟ ليسمع هؤلاء الذين لا يقرأون ولا يتفقهون – قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، حيث يحض الذين لديهم مظالم وشكاوى، أن يبلغوه إياها، فيقول: "أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها. فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله قدميه على الصراط المستقيم". إن القائد وولي الأمر بحسب ما جاء في (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) لشيخ الإسلام ابن تيمية: (أن الواجب: تحصيل المصالح وتكميلها، وتبطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المفسدتين، بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها، هو المشروع). ويقول: (والمعين على الإثم والعدوان، من أعان الظالم على ظلمه، أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المظلمة، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم).
|